التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

ثم انتقل - سبحانه - من تبكيتهم على البخل وغيره مما سبق إلى تقريعهم على رذيلة الحسد التى استولت عليهم فأضلتهم وجعلتهم يتألمون لما يصيب الناس من خير ويتمنون زواله فقال - تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .

و { أَمْ } هنا منقطعة أيضا كسابقتها ، والاستفهام المقدر بعدها لإِنكار الواقع وهو حسدهم لغيرهم .

والمراد من الناس : النبى صلى الله عليه وسلم أو هو والمؤمنون معه . وقيل المقصود من الناس : العرب عامة .

قال الفخر الرازى : والمراد من الناس - عند الأكثرين - أنه محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد ؛ لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا فى الجمع العظيم أو المراد بهم : الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ؛ لأن لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد . وحسن لفظ إطلاق الناس عليهم لأنهم القائمون بالعبودية الحق لله - تعالى - فكأنهم كل الناس .

والمراد بالفضل فى قوله { على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } النبوة والهدى والإِيمان .

والمعنى : إن هؤلاء اليهود ليسوا بخلاء فقط بل إن فيهم من الصفات ما هم أقبح من البخل وهو الحسد فقد حسدوا النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله منحه النبوة وهو رجل عرب ليس منهم ، وحدسوا أتباعه لأنهم آمنوا به وصدقوه والتفوا من حوله يؤازرونه ويفتدونه بأرواحهم وأموالهم .

وقوله { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } توبيخ لهم على حسدهم ، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم .

والمعنى : إنكم بحسدكم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، تكونون قد ظللتم وسرتم فى طريق الشيطان ، لأنكم لو كنتم عقلاء لما فعلتم لك ، إذ أنتم تعلمون علم اليقين أن الله - تعالى - قد أعطى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى : قرابته القريبة من ذريته كإسماعيل - وهو جد العرب - وإسحاق ويعقوب وغيرهم . . أعطاهم { الكتاب } أى : جنس الكتب السماوية فيشمل ذلك التوارة والإِنجيل والزبور وغيرها . وأعطاهم { والحكمة } أى العلم النافع مع العمل به . وأعطاهم { مُّلْكاً عَظِيماً } أى سلطانا واسعا وبسطه فى الأرض .

ومع ذلك فأنتم لم تحسدوا هؤلاء على ما أعطاهم الله من كتاب وحكمة وملك عظيم ، فلماذا تحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما أتاه الله من فضله مع أنه من نسل إبراهيم - عليه السلام - ؟ .

فالجملة الكريمة توبيخ لهم على أنانيتهم وحسدهم ، وإلزام لهم بما يعرفونه من واقع كتبهم ، وكشف للناس عن أن أحقادهم مرجعها إلى انطماس بصيرتهم ، وخبث نفوسهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً } . .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ } أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ } قال : اليهود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

وأما قوله : { النّاسَ } فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عنى الله به ، فقال بعضهم : عنى الله بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم خاصة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد ، عن عكرمة في قوله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال : الناس في هذا الموضع : النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أمْ يَحْسُدونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال : الناس : محمد صلى الله عليه وسلم .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : فذكر نحوه .

وقال آخرون : بل عَنَى الله به العربَ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أولئك اليهود حسدوا هذا الحيّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عاتب اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات ، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلاً على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذبة : أم يحسدون محمدا على آتاهم الله من فضله .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن ما قبل قوله : { أم يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } مضى بذمّ القائلين من اليهود للذين كفروا : { هَؤُلاء أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } ، فإلحاق قوله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } بذمهم على ذلك ، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل أشبه وأولى ، ما لم يأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك .

واختلف أهل التأويل في تأويل الفضل الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فقال بعضهم : ذلك الفضل هو النبوّة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أم يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } : حسدوا هذا الحيّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله ، بعث الله منهم نبيا فحسدوهم على ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال : النبوّة .

وقال آخرون : بل ذلك الفضل الذي ذكر الله أنه آتاهموه : هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء ، ينكح منهنّ ما شاء بغير عدد . قالوا : وإنما يعني بالناس : محمدا صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت قبل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . . . الاَية ، وذلك أن أهل الكتاب قالوا : زعم محمد أنه أُوتي ما أُوتي في تواضع وله تسع نسوة ، ليس همه إلا النكاح ، فأيّ ملك أفضل من هذا ؟ فقال الله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاس على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } يعني محمدا أن ينكح ما شاء من النساء .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أمْ يُحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وذلك أن اليهود قالوا : ما شأن محمد أعطي النبوّة كما يزعم وهو جائع عار ، وليس له همّ إلا نكاح النساء ؟ فحسدوه على تزويج الأزواج ، وأحلّ الله لمحمد أن ينكح منهنّ ما شاء أن ينكح .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جُريج الذي ذكرناه قبلُ أن معنى الفضل في هذا الموضع النبوّة التي فضل الله بها محمدا ، وشرّف بها العرب إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم ، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الاَية تدلّ على أنها تقريظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، على ما قد بينا قبل ، وليس النكاح وتزويج النساء ، وإن كان من فضل الله جلّ ثناؤه الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما } .

يعني : بذلك جلّ ثناؤه : أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات ، الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ، من أجل أنهم ليسوا منهم ، فكيف لا يحسدون آل إبراهيم ، فقد آتيناهم بالكتاب ؟ ويعني بقوله : { فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ } : فقد أعطينا آل إبراهيم ، يعني : أهله وأتباعه على دينه { الكِتَابَ } يعني : كتاب الله الذي أوحاه إليهم ، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزبور ، وسائر ما آتاهم من الكتب . وأما الحكمة ، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا . { وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما } .

واختلف أهل التأويل في معنى المُلْكِ العظيم الذي عناه الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هو النبوّة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ } قال : يهود ، { على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فقد آتينا آل آبراهيم الكتاب وليسوا منهم ، والحكمة ، { وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما } قال : النبوّة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : { مُلْكا } : النبوّة .

وقال آخرون : بل ذلك تحليل النساء¹ قالوا : وإنما عنى الله بذلك : أم يحسدون محمدا على ما أحلّ الله له من النساء ، فقد أحلّ الله مثل الذي أحله له منهنّ لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء ، فكيف لم يحسدوهم على ذلك وحسدوا محمدا عليه الصلاة والسلام ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فقدْ آتيْنا آلَ إبراهيمَ } : سليمان وداود { الحِكْمَةَ } يعني : النبوّة . { وآتَيْنَاهُمْ مُلْكَا عَظِميا } في النساء ، فما باله حلّ لأولئك وهم أنبياء أن ينكح داود تسعا وتسعين امرأة ، وينكح سليمان مائة ، ولا يحلّ لمحمد أن ينكح كما نكحوا ! .

وقال آخرون : بل معنى قوله : { وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما } الذي آتى سليمان بن داود . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما } يعني : ملك سليمان .

وقال آخرون : بل كانوا أُيّدُوا بالملائكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن همام بن الحارث : { وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما } قال : أُيدوا بالملائكة والجنود .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَي ، وهي قوله : { وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما } القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال : يعني : ملك سليمان¹ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، دون الذي قال : إنه ملك النُبوّة ، ودون قول من قال : إنه تحليل النساء والملك عليهنّ . لأن كلام الله الذي خوطب به العرب غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه ، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك يجب التسليم لها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس } الآية ، { أم } هذه على بابها ، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا ، < بل لهم> قد تقدمها . واختلف المتأولون في المراد ب { الناس } في هذا الموضع ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك ، هو النبي عليه السلام ، والفضل النبوة فقط ، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك ؟ وقال ابن عباس والسدي أيضاً : هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ما أبيح له من النساء فقط ، وسبب الآية عندهم ، أن اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول : إنه بعث بالتواضع ، وإنه لا يملأ بطنه طعاماً ، ليس همه إلا في النساء ، ونحو هذا ، فنزلت الآية ، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم ؟ صلى الله عليه وسلم يعني سليمان وداود عليهما السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً ، في أمر النساء ، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة ، ونحو هذا من الأخبارالواردة في ذلك ، فالملك في هذا القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولاً بالذكر ، وقال قتادة : { الناس } في هذا الموضع : العرب ، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه السلام منها ، «والفضل » على هذا التأويل : هو محمد عليه السلام ، فالمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم - وهم أسلافهم - أنبياء وكتباً ، كالتوراة والزبور ، { وحكمة } وهي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «نحن الناس » يريد قريشاً ، { وملكاً عظيماً } : أي ملك سليمان ، قاله ابن عباس : وقال مجاهد : الملك العظيم في الآية هو النبوة ، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة : هو التأييد بالملائكة .

قال القاضي أبو محمد : والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

عقّب هذا الكلام بقوله { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } .

والاستفهام المقدّر بعد ( أم ) هذه إنكار على حسدهم ، وليس مفيداً لنفي الحسد لأنّه واقع . والمراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم والفضل النبوءة ، أو المراد به النبي والمؤمنون ، والفضلُ الهُدى بالإيمان .

وقوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب } عطف على مقدّر من معنى الاستفهام الإنكاري ، توجيهاً للإنكار عليهم ، أي فلا بدع فيما حسدوه إذ قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك .

وآل إبراهيم : أبناؤه وعقبه ونسله ، وهو داخل في هذا الحكم لأنّهم إنّما أعطوه لأجل كرامته عند الله ووعد الله إيّاه بذلك . وتعريف ( الكتاب ) : تعريف الجنس ، فيصدق بالمتعدّد ، فيشمل صحف إبراهيم ، وصحف موسى ، وما أنزل بعد ذلك . والحكمة : النبوءة ، والملك : هو ما وعد الله به إبراهيم أن يعطيه ذرّيته وما آتى الله داوود وسليمان وملوكَ إسرائيل .

وضمير { منهم } يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { يحسدون } . وضمير { به } يعود إلى الناس المراد منه محمّد عليه السلام : أي فمِنَ الذين أوتوا نصيباً من الكتاب مَن آمن بمحمّد ، ومنهم من أعرض . والتفريع في قوله : { فمنهم } على هذا التفسير ناشيء على قوله { أم يحسدون الناس } . ويجوز أن يعود ضمير { فمنهم } إلى آل إبراهيم ، وضمير { به } إلى إبراهيم ، أي فقد آتيناهم ما ذُكر . ومن آله من آمن به ، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر ، وامْرأةِ ابن أخيه لوط ، أي فليس تكذيب اليهود محمّدا بأعجب من ذلك ، { سُنَّة من قد أرسلنا قبلَك من رُسلنا } [ الإسراء : 77 ] ، ليَكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم ؛ بإثباتتِ أنّ إتيان النبوءة ليس ببدع ، وأن محمّدا من آل إبراهيم ، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى . وفي تذكيرهم بأنّ هذه سنّة الأنبياء حتى لا يَعُدّوا تكذيبهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ثلمة في نبوءته ، إذ لا يعرف رسولا أجمْعَ أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فَمن بعده .