التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

ثم بين - سبحانه - أن مرجع العباد جميعا إليه ، وأنه سيجازي كل إنسان بما يستحق .

فقال - تعالى - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً } .

أى : إلى الله - تعالى - وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم ، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا ، ولن يخلف الله وعده .

قال أبو حيان : وانتصب { وَعْدَ الله } و { حَقّاً } على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله " صبغة الله " و " صنع الله " والتقدير في { حقا } : حق " ذلك حقا " .

وقوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } كالتعليل لما أفاده قوله - سبحانه - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فإن غاية البدء والإِعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية .

أى : إن شأنه - سبحانه - أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه .

ثم بين - سبحانه - الحكمة من الإِعادة بعد الموت الموت فقال : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .

والقسط - كما يقول الراغب - النصب بالعدل . يقال : قسط الرجل إذا جار وظلم .

ومنه قوله - تعالى - { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله - تعالى - { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والحميم : الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة ، قال - تعالى - { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي : فعل ما فعل سبحانهن من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم ، وأما الذين كفروا فيجزيهم - أيضاً - بعدله ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم ، ومن عذاب مؤلم لابدانهم ، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى .

وقوله : { بالقسط } حال من فاعل { ليجزي } ليجزيهم ملتبسا بالقسط .

ويصح أن يكون المعنى : فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم ، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم .

قال الجمل ما ملخصه : وقال - سبحانه - { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ . . . } بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب . وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإِعادة هو الإِثابة . والعذاب وقع بالعرض . وأنه - تعالى - يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : إلى ربكم الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه في الآية قبل هذه معادكم أيها الناس يوم القيامة جميعا . وَعْدَ اللّهِ حَقّا فأخرج «وعد الله » مصدرا من قوله : إلَيْهِ مَرْجَعُكُمْ لأن فيه معنى الوعد ، ومعناه : يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدا حقّا ، فلذلك نصب وَعْدَ الله حَقّا . إِنّهُ يَبْدَؤُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ يقول تعالى ذكره : إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ثم يعيده ، فيوجده حيّا كهيئته يوم ابتدأه بعد فنائه وبلائه . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ قال : يحييه ثم يميته .

قال أبو جعفر : وأحسبه أنه قال : «ثم يحييه » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ قال : يحييه ثم يميته ثم يحييه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ : يحييه ثم يميته ، ثم يبدؤه ثم يحييه .

قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .

وقرأت قرّاء الإمصار ذلك : إنّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ بكسر الألف من إنه على الاستئناف . وذُكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه أنه بفتح الألف من «أنه » كأنه أراد : حقّا أن يبدأ الخلق ثم يعيده ، ف «أنّ » حينئذ تكون رفعا ، كما قال الشاعر :

أحَقّا عِبادَ اللّهِ أنْ لَسْتُ زَائرا *** أبا حَبّةٍ إلاّ عليّ رَقِيبُ

وقوله : لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ بالقِسْطِ يقول : ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره ، لَيْجِزيَ الّذِينَ آمَنُوا يقول : ليثيب من صدق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال واجتنبوا ما نهاهم عنه على أعمالهم الحسنة بالقِسْطِ يقول : ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسن من الثواب والصالح من الجزاء في الاَخرة ، وذلك هو القسط . والقسط العدل والإنصاف كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالقِسْطِ بالعدل .

وقوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ فإنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدّ الله للذين كفروا من العذاب . وفيه معنى العطف على الأوّل ، لأنه تعالى ذكره عمّ بالخبر عن معاد جميعهم كفارهم ومؤمنيهم إليه ، ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلّ فريق بما عمل ، المحسن منهم بالإحسان والمسيء بالإساءة . ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنف عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ما يدلّ سامع ذلك على المراد ابتدأ الخبر والمعني العطف ، فقال : والذين جحدوا الله ورسوله وكذبوا بآيات الله ، لهم شراب في جهنم من حميم ، وذلك شراب قد أغلي واشتدّ حرّه حتى أنه فيما ذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتساقط من أحدهم حين يدنيه منه فروة رأسه ، وكما وصفه جلّ ثناؤه : كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ . وأصله مفعول صرف إلى فعيل ، وإنما هو «محموم » : أي مسخن ، وكلّ مسخن عند العرب فهو حميم ، ومنه قول المرقش :

فِي كُلّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ *** فِيها كِباءٌ مُعَدّ وحَمِيمْ

يعني بالحميم : الماء المسخن . وقوله : عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : ولهم مع ذلك عذاب موجع سوى الشراب من الحميم بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ بالله ورسوله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

وقوله { إليه مرجعكم جميعاً } الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله { جميعاً } الآية ، حال من الضمير في { مرجعكم } ، { وعد الله } نصب على المصدر ، وكذلك قوله { حقاً } وقال أبو الفتح { حقاً } نعت ، وقرأ الجمهور «إنه » بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه » بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه .

قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون { أنه } بدلاً من قوله { وعد الله } ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد . وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه » ولا يعمل فيه المصدر الذي هو { وعد الله } لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله{[6011]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ » بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه » وقوله { يبدأ الخلق } يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يُبدِىء الخلق » بضم الياء وكسر الدال ، وقوله { ليجزي } هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله { بالقسط } أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله { والذين كفروا } ابتداء و «الحميم » الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :

في كل يوم لها مقطرة *** وكباء معدة وحميم{[6012]}

وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه{[6013]} ، وهو كما وصفه تعالى { يشوي الوجوه }{[6014]} .


[6011]:- فلا يصح أن يوصف قبل تمامه.
[6012]:- البيت للمرقّش الأصغر، واسمه ربيعة بن سفيان بن سعد، وهو ابن أخ المرقش الأكبر، وعمّ لطرفة بن العبد، وهو أشهر المرقشين، ويعد واحدا من فرسان العرب وشجعانهم، والبيت من قصيدة يتغزل فيها في محبوبته ابنة عجلان، والرواية هنا ناقصة، وفيها اختلاف عن الديوان، واللفظ كما في الديوان: في كل مسمى لها مقطرة فيها كباء معدّة وحميم. ورواية اللسان: "كل عشاء- ومعدّ". وجميع الروايات تحتاج إلى مناقشة في الوزن الشعري، والمقطرة: المحجرة، والكباء بكسر الكاف: العود، والحميم: ماء حار تحمّ به، ويصفها بالنظافة فيقول: إنها تعد كل مساء ماء ساخنا لتغتسل به، وهذا المعنى مأثور ومتكرر في الشعر الغزلي عند الجاهليين، إذ ينسبون إلى الحبيبات كل نعيم للتدليل على الترف.
[6013]:- رواه الترمذي، والإمام أحمد (5/265) ولفظه كما جاء فيه: عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ويُسقى من ماء صديد يتجرعه) قال: يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه...الخ الحديث.
[6014]:- من الآية (29) من سورة (الكهف).