تاسعاً : نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك :
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بمنة عظيمة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها وما رعوها حق رعايتها ، وهي تخليصهم من عناء التيه ، والإِذن لهم في دخول بلدة يجدون فيها الراحة والهناء ، وإرشادهم إلى القول الذي يخلصهم مما استوجبوه من عقوبات ولكنهم خالفوه فقال تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ . . . }
القرية : هي البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها بيت المقدس على الراجح .
والرغد : الواسع من العيش الهنيء ، الذي لا يتعب صاحبه ، يقال : أرغد فلان : أصاب واسعاً من العيش الهنيء .
الحطة : من حط بمعنى وضع ، وهي مصدر مراد به طلب حط الذنوب .
قال صاحب الكشاف : ( حطة ) فعله من الحط كالجلسة . وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات . . ) ؟
والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل ، لتتعظوا وتعتبروا - وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التية ، وأبحناهم أن يأكلوا من خيراتها أكلاً هنيئاً ذا سعة وقلنا لهم : ادخلوا من بابها راكعين شكراً لله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه - سبحانه - بأن يحط عنكم ذنوبكم ، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم ، وزدنا المحسن منهم خيراً جزاء إحسانه ، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوه أوامره ، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوابه به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .
قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله - : ( وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع . بن نون - عليه السلام - وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب ( باب البلد ) سجداً أي شكراً الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال ) .
وقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها . حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أي مكان شاءوا .
وقوله تعالى : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع ، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم . بأيسر الطرق وأسهل السبل ، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم ، ويمحو سيئاتهم .
وقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم ، وإغراء لهم على الامتثال والشكر ، لو كانوا يعقلون - لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب .
قال الإِمام ابن جرير : يعني بقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ، ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئاً فهو غافر . . والخطايا : جمع خطية - بغير همز - كالمطايا جمع مطية .
وقوله تعالى : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة لمن أسلم لله وهو محسن ، أي : من كان منكمو محسناً زيد في إحسانه ومن كان مخطئاً نغفر له خطيئاته .
وقد أمرهم - سبحانه - أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم ، لأن تغلبهم على أعدائهم ، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ، نعمة من أجل النعم ، و هي تستدعي منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكي يزيدهم من فضله ، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب ، فعندما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا ، وإنه لخاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكراً لله على نعمة الفتح ، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثماني ركعات سماها بعض الفقها صلاة الفتح .
ومن هنا استحِب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند دخولها شكراً لله - تعالى - وقد فعل ذلك سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى ، فقد ثبت أنه صلى بداخله ثماني ركعات .
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }
والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها ، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا : بيت المقدس . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال : بيت المقدس .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدِي : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بيت المقدس .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعني بيت المقدس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته يعني ابن زيد عن قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال : هي أريحا ، وهي قريبة من بيت المقدس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا .
يعني بذلك : فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا ، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا .
أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه ، فإنه قيل : هو باب الحطة من بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وادْخُلُوا البابَ سُجّدا أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة .
وأما قوله : سُجّدا فإن ابن عباس كان يتأوّله بمعنى الركع .
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : ركعا من باب صغير .
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : أمروا أن يدخلوا ركعا . وأصل السجود : الانحناء لمن سجد له معظما بذلك ، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد ، ومنه قول الشاعر :
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجّدا للْحَوَافِرِ
يعني بقوله : سجدا : خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤارَا
فذلك تأويل ابن عباس قوله : سُجّدا ركعا ، لأن الراكع منحن ، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطّةٌ .
وتأويل قوله : حِطّةٌ : فعلة ، من قول القائل : حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة ، بمنزلة الردة والحدّة والمدة من حددت ومددت .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك منهم :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أنبأنا معمر : وَقُولُوا حِطّةٌ قال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَقُولُوا حِطّةٌ : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : قُولُوا حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : حِطّةٌ : مغفرة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : قولوا لا إلَه إلا الله . كأنهم وجهوا تأويله : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قالا : أخبرنا حفص بن عمر ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا لا إلَه إلا الله .
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة ، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : أمروا أن يستغفروا .
وقال آخرون نظير قول عكرمة ، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة ، فقال بعض نحويي البصرة : رفعت الحطة بمعنى «قولوا » ليكن منكم حطة لذنوبنا ، كما تقول للرجل سَمْعُك .
وقال آخرون منهم : هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة ، وفرض عليهم قيلها كذلك .
وقال بعض نحويي الكوفيين : رفعت الحطة بضمير «هذه » ، كأنه قال : وقولوا هذه حطة .
وقال آخرون منهم : هي مرفوعة بضمير معناه الخبر ، كأنه قال : قولوا ما هو حطة ، فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل«ما » .
والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب ، أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة ، وهو دخولنا الباب سجدا حطة ، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دل عليه الظاهر من التنزيل ، وهو قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه : وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبّكُمْ يعني موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ يعني بذلك : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ . . . وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا ، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا .
وأما على تأويل قول عكرمة ، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في «حطة » ، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا : لا إلَه إلا الله ، أو أن يقولوا : نستغفر الله ، فقد قيل لهم : قولوا هذا القول ، ف«قولوا » واقع حينئذٍ على الحطة ، لأن الحطة على قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا الله ، وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا الله ، فالقول عليها واقع ، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الخير ، فقال له : «قل خيرا » نصبا ، ولم يكن صوابا أن يقول له «قل خير » إلا على استكراه شديد .
وفي إجماع القراء على رفع «الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة في «حطة » نصبا ، لأن من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر ، كما قال الشاعر :
أُبِيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْ *** على أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبا شآمِيَا
وكقول القائل للرجل : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع سمعا وأطيع طاعة ، وكما قال جل ثناؤه : مَعَاذ الله بمعنى : نعوذ بالله .
القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ .
يعني بقوله : نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس «مِغْفر » ، لأنها تغطي الرأس وتُجِنّه ، ومثله غمد السيف ، وهو ما يغمده فيواريه ولذلك قيل لزئبر الثوب «غفر » ، لتغطيته العورة ، وحَوْلِه بين الناظر والنظر إليها . ومنه قول أوس بن حجر :
فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاً *** وأغْفِرُ عَنْهُ الجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ
يعني بقوله : وأغفر عنه الجهل : أستر عليه جهله بحلمي عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : خَطاياكُمْ والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية ، والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز ، لأن ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز ، فجمع على خطايا ، على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائى على مثل قبيلة وقبائل ، وصحيفة وصحائف . وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال خطيئات ، والخطيئة فعلية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق . ومنه قول الشاعر :
وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفاهُ *** لَعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابَا
القول في تأويل قوله تعالى : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .
وتأويل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عباس ، وهو ما :
حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ : من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته .
فتأويل الآية : وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات ، موسعا عليكم بغير حساب ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا ، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم ، فنسترها عليه ، ونحطّ أوزاره عنه ، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم ، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله ، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم ، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره ، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات ، ومعلمهم أنهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم ، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم ، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم . وقصّ علينا أنباءهم في هذه الاَيات ، فقال جل ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
و { القرية } المدينة تسمى بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته( {[640]} ) ، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور . وقيل إلى أريحا ، وهي قريب من بيت المقدس .
قال عمر بن شبة( {[641]} ) : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه أمروا بدخول القرية المشار إليها ، وأما الشيوخ فماتوا فيه ، وروي أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في التيه ، وكذلك هارون عليه السلام .
وحكى الزجاج عن بعضهم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه( {[642]} ) لأنه عذاب ، والأول أكثر ، و { كلوا } إباحة ، وقد تقدم معنى الرغد ، وهي( {[643]} ) أرض مباركة عظيمة الغلة ، فلذلك قال { رغداً } .
و { الباب } قال مجاهد : هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطة ، وقيل هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى صلى الله عليه وسلم .
وروي عن مجاهد أيضاً : أنه باب في الجبل الذي كلم عليه موسى كالفرضة( {[644]} ) .
و { سجداً } قال ابن عباس رضي الله عنه : معناه ركوعاً( {[645]} ) ، وقيل متواضعين خضوعاً لا على هيئة معينة ، والسجود يعم هذا كله لأنه التواضع ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ترى الأكم فيه سجُّداً للحوافر( {[646]} )
وروي أن الباب خفض لهم ليقصر ويدخلوا عليه متواضعين ، و { حطة } فعلة من حط يحط ، ورفعه على خبر ابتداء ، كأنهم قالوا سؤالنا حطة لذنوبنا ، هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن .
وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقيل أمروا أن يقولوا مرفوعة على هذا اللفظ .
وقال عكرمة وغيره : أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لتحط بها ذنوبهم .
وقال ابن عباس : قيل لهم استغفروا وقولوا ما يحط ذنوبكم .
وقال آخرون : قيل لهم أن يقولوا هذا الأمر حق كما أعلمنا . وهذه الأقوال الثلاثة تقتضي النصب .
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : «حطة » بالنصب( {[647]} ) .
وحكي عن ابن مسعود وغيره : أنهم أمروا بالسجود وأن يقولوا { حطة } فدخلوا يزحفون على أستاههم( {[648]} ) ويقولون حنطة حبة حمراء في شعرة ، ويروى غير هذا من الألفاظ .
وقرأ نافع : «يُغفر » بالياء من تحت مضمومة .
وقرأ ابن عامر : «تُغفر » بالتاء من فوق مضمومة .
وقرأ أبو بكر عن عاصم : «يَغفر » بفتح الياء على معنى يغفر الله .
وقرأ الباقون : «نغفر » بالنون .
وقرأت طائفة «تغفر » كأن الحطة( {[649]} ) تكون سبب الغفران ، والقراء السبعة على { خطاياكم } ، غير أن الكسائي كان يميلها .
وقرأ الجحدري : «تُغفر لكم خطيئتُكُمْ » بضم التاء من فوق وبرفع الخطيئة .
وقرأ الأعمش : «يغفر » بالياء من أسفل مفتوح «خطيئتَكُم » نصباً .
وقرأ قتادة مثل الجحدري ، وروي عنه أنه قرأ بالياء من أسفل مضمومة خطيئتكم رفعاً .
وقرأ الحسن البصري : «يغفر لكم خطيئاتِكم » أي يغفر الله .
وقرأ أبو حيوة : «تغفر » بالتاء من فوق مرفوعة «خطيئاتُكم » بالجمع ورفع التاء .
وحكى الأهوازي( {[650]} ) : أنه قارىء «خطأياكم » يهمز الألف الأولى وسكون الآخرة . وحكي أيضاً أنه قرىء بسكون الأولى وهمز الآخرة .
قال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همز كهدية وهدايا ، وركية وركايا .
وقال الخليل( {[651]} ) : هو جمع خطيئة بالهمز ، وأصله خطايىء قدمت الهمزة على الياء فجاء خطائي أبدلت الياء ألفاً بدلاً لازماً فانفتحت الهمزة التي قبلها فجاء خطاءا ، همزة بين ألفين ، وهي من قبيلهما فكأنها ثلاث ألفات ، فقلبت الهمزة فجاء خطايا .
قال سيبويه : «أصله خطايىء همزت الياء كما فعل في مدائن وكتائب فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء ، ثم أعلت على ما تقدم » .
وقوله تعالى : { وسنزيد المحسنين } عدة ، المعنى إذا غفرت الخطايا بدخولكم وقولكم زيد بعد ذلك لمن أحسن ، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر وقال لا إله إلا الله فقيل هم المراد ب { المحسنين } هنا .