ثم وجه - سبحانه - إليهن نداء ثانيا فقال : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن } .
أى : يا نساء النبى ، لقد أعطاكن الله - تعالى - من الفضل من سمو المنزلة ما لم يعط غيركن ، فأنتن فى مكان القدوة لسائر النساء ، وهذا الفضل كائن لكن إن اتقيتن الله - تعالى - وصنتن أنفسكن عن كل ما نهاكن - سبحانه - عنه .
قال صاحب الكشاف : أحد فى الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع فى النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه . ومعنى قوله { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء . أى : إذا استقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والسابقة .
وجواب الشرط فى قوله { إِنِ اتقيتن } محذوف لدلالة ما قبله عليه . أى : إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء .
قال الآلوسى : قوله { إِنِ اتقيتن } شرط لنفى المثلية وفضلهن على النساء ، وجوابه محذوف دل عليه المذكور . . والمفعول محذوف . أى : إن اتقيتن مخالفة حكم الله - تعالى - ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك . والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن ، بمنزلة الخروج من التقوى .
فالمقصود بالجملة الكريمة بيان أن ما وصلن إليه من منزلة كريمة ، هو بفضل تقواهن وخشيتهن لله - تعالى - وليس بفضل شئ آخر .
ثم نهاهن - سبحانه - عن النطق بالكلام الذى يطمع فيهن من فى قلبه نفاق وفجور فقال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } .
أى : فلا ترققن الكلام ، ولا تنطقن به بطريقة لينة متكسرة تثير شهرة الرجال ، وتجعل مريض القلب يطمع فى النطق بالسوء معكن ؛ فإن من محاسن خصال المرأة أن تنزه خطابها عن ذلك ، لغير زوجها من الرجال .
وهكذا يحذر الله - تعالى - أمهات المؤمنين - وهن الطاهرات المطهرات - عن الخضوع بالقول ، حتى يكون فى ذلك عبرة وعظة لغيرهن فى كل زمان ومكان ؛ فإن مخاطبة المرأة - لغير زوجها من الرجال - بطريقة لينة مثيرة للشهوات والغرائز ، تؤدى إلى فساد كبير ، وتطمع من لا خلاق لهم فيها .
ثم أرشدهن - سبحانه - إلى القول الذى يرضيه فقال : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .
أى : اتركن الكلام بطريقة تطمع الذى فى قلبه مرض فيكن ، وقلن قولا حسنا محمودا . وانطقن به بطريقة طبيعية ، بعيدة عن كل ريبة ، أو انحراف عن الحق ، والخلق الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ وَأَقِمْنَ الصّلاَةَ وَآتِينَ الزّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } .
يقول تعالى ذكره لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِنَ النّساءِ من نساء هذه الأمة إنِ اتّقَيْتُنّ الله فأطعتنه فيما أمركنّ ونهاكنّ ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِنَ النّساءِ يعني من نساء هذه الأمة .
وقوله : فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ يقول : فلا تلنّ بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأَحَدٍ مِنَ النّساءِ إنِ اتّقَيْتُنّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ يقول : لا ترخصن بالقول ، ولا تخضعن بالكلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ قال : خضع القول ما يكره من قول النساء للرجال مما يدخل في قلوب الرجال .
وقوله : فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يقول : فيطمع الذي في قلبه ضعف فهو لضعف إيمانه في قلبه ، إما شاكّ في الإسلام منافق ، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله ، وإما متهاون بإتيان الفواحش .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : إنما وصفه بأن في قلبه مرضا ، لأنه منافق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِه مَرَضٌ قال : نفاق .
وقال آخرون : بل وصفه بذلك لأنهم يشتهون إتيان الفواحش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قال : قال عكرمة : شهوة الزنا .
وقوله : وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا يقول : وقلن قولاً قد أذن الله لكم به وأباحه . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا قال : قولاً جميلاً حسنا معروفا في الخير .
ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ، و { لا تخضعن } معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريباً ، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت قط من توبة شيئاً تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوماً شعراً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [ الطويل ]
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل{[9507]}
الحكاية ، وقال ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمعَ » بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمعِ » بالجزم وكسر للالتقاء{[9508]} ، وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيَطمِع » بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض » في هذه الآية قال قتادة هو النفاق ، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.