ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء .
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
أى : لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ لا أطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك ؟ فنزلت هذه الآية .
ففى الآية الكريمة نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه . لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للاسلام لينال بقوتهم قوة ، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة فى الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه فى كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير ؟
ثم قال تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } .
أى : إن الله تعالى هو الذى سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شىء ، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شىء ، فهم مجزبون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك ، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الضالين . إذ انهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك ، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هى صفاتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كفى قوله { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى فى قوله :
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وهنا تخريج آخر لقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } بأن المعنى : ما عليك شىء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء ، وما من حسابك فى الفقر والغنى عليهم من شىء ، أى أ ، ت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعاً سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيراً لفقره ، وتقرب غنيا لغناه ؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك .
وقوله { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب للنهى عن الطرد ، وقوله { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لنفى الحساب .
ثم قال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } .
والمعنى : ومثل ذلك الفتن . أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء فى شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا ! وقد رد الله عليهم بقوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ } . .
ذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون له : لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو زيد ، عن أشعث ، عن كُردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ، هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا ، أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الاَية : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدونَ وَجْهَه وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن عبد الله ، قال : مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن كردوس ، عن ابن عباس ، قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش ، ثم ذكر نحوه .
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزديّ وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب ، في قول الله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . . . إلى قوله : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمينَ قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من ضعفاء المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : إنا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : «نَعَمْ » قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا عليّا ليكتب ، قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الاَية : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ، ثم قال : وكذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهُؤَلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ ، ثم قال : وَإذا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ . فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا ، فأتيناه وهو يقول : سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحيَاةِ الدّنْيا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزديّ ، عن أبي الكنود ، عن خباب بن الأرق ، بنحو حديث الحسين بن عمرو إلاّ أنه قال في حديثه : فلما رأوهم حوله نَفّروهم ، فأتوه فخَلَوا به . وقال أيضا : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ، ثم ذكر الأقرع وصاحبه ، فقال : وكَذَلكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية . وقال أيضا : فدعانا فأتيناه وهو يقول : «سَلامٌ عَلَيْكُمْ » فدنونا منه يومئذٍ حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه ، وسائر الحديث نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والكلبي : أن ناسا من كفار قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن سَرّكَ أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا ناسا من ضعفاء المسلمين . فقال الله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدونَ وَجْهَه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ . . . إلى قوله : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية ، قال : وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد إن سرّك أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا لأناس كانوا دونهم في الدنيا ازدراهم المشركون . فأنزل الله تعالى هذه الاَية إلى آخرها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ بلال وابن أمّ عبد كانا يجالسان محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش محقرتهما : لولاهما وأمثالهما لجالسناه فنهي عن طردهم ، حتى قوله : ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ قال : قل سلام عليكم فيما بين ذلك في هذا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، قال : قال سعيد : نزلت هذه الاَية في ستة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم ابن مسعود ، قال : كنا نسبق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وندنو منه ونسمع منه ، فقالت قريش : يُدْني هؤلاء دوننا ؟ فنزلت : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، في قوله : وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبّهِمْ . . . الاَية . قال : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عديّ والحرث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا ، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له قال : فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم فأنزل الله تعالى هذه الاَية : وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُون أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبّهِمْ لَيْس لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . . . إلى قوله : ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ . قال : وكانوا : بلالاً وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ومن الحلفاء : ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، ومسعود ، ابن القاري ، وواقد بن عبد الله الحنظلي ، وعمرو بن عبد عمر ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد ، وأبو مرثد من غنيّ حليف حمزة بن عبد المطلب ، وأشباههم من الحفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا . . . الاَية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله تعالى : وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ . . . الاَية .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال رجل للنيّ صلى الله عليه وسلم : إني أستحيي من الله أن يراني مع سلمان وبلال وذويهم ، فاطردهم عنك وجالس فلانا وفلانا قال : فنزل القرآن : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فقرأ حتى بلغ : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلاّ أن تطردهم . ثم قال : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ . ثم قال : وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم فأبلغهم منى السلام وبشّرهم ، وأخبرهم أني قد غفرت لهم وقرأ : وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ فقرأ حتى بلغ : وكذَلِكَ نُفصّلُ الاَياتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ قال : لتعرفها .
واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرهط الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم يدعون ربهم به ، فقال بعضهم : هي الصلوات الخمس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يعني : يعبدون ربهم بالغداة والعشيّ ، يعني الصلوات المكتوبة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال : هي الصلوات الخمس الفرائض ، ولو كان يقول القصّاص هلك من لم يجلس إليهم .
حدثنا هناد بن السريّ وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال : هي الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ الصلاة المفروضة : الصبح والعصر .
حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي ، قال : حدثنا حسن الجعفي ، قال : أخبرني حمزة بن المغيرة ، عن حمزة بن عيسى ، قال : دخلت على الحسن فسألته ، فقلت : يا أبا سعيد ، أرأيت قول الله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ أهم هؤلاء القصّاص ؟ قال : لا ، ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ قال : الصلاة المكتوبة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : يعبدون ربهم بالغداة والعشيّ يعني الصلاة المفروضة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ هما الصلاتان : صلاة الصبح وصلاة العصر .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر في هذه الاَية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ . . . الاَية ، أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قالا : الصلوات الخمس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : المصلين المؤمنين بلال وابن أمّ عبد . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاصّ ، فقال سعيد : ما أسرعهم إلى هذا المجلس قال مجاهد : فقلت : يتأوّلون ما قال الله تعالى . قال : وما قال ؟ قلت : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : وفي هذا ذا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الاَن ، إنما ذاك في الصلاة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، قال : الصلاة المكتوبة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : هي الصلاة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن إسرائيل ، عن عامر ، قال : هي الصلاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يقول : صلاة الصبح وصلاة العصر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : صلى عبد الرحمن في مسجد الرسول ، فلما صلى قام فاستند إلى حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فانثال الناس عليه ، فقال : يا أيها الناس إليكم فقيل : يرحمك الله ، إنما جاءوا يريدون هذه الاَية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ فقال : وهذا عُني بهذا إنما هو في الصلاة .
وقال آخرون : هي الصلاة ولكن القوم لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد هؤلاء الضعفاء عن مجلسه ولا تأخيرهم عن مجلسه ، وإيما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأوّل حتى يكونوا وراءهم في الصفّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكَذِلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية ، فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء ، فقال أناس من أشراف الناس : نؤمن لك ، وإذا صلينا فأخرّ هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا
وقال آخرون : بل معنى دعائهم كان ذكرهم الله تعالى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : أهل الذكر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : هم أهل الذكر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : لا تطردهم عن الذكر .
وقال آخرون : بل كان ذلك تعلمهم القرآن وقراءته . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قال : كان يقرئهم القرآن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عَنَى بدعائهم ربهم عبادَتهم إياه . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قال : يعني : يعبدون ، ألا تر أنه قال : لا جَرَمَ أنّما تَدْعُونَنِي إلَيْهِ يعني : تعبدونه .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولاً وكلاما ، وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمال التي كان عليهم فرضها وغيرها من النوافل التي ترضي والعامل له عابده بما هو عامل له وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها ، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشيّ ، لأن الله قد سمى العبادة دعاء ، فقال تعالى : وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء ، ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ فيعمّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء دون شيء . فتأويل الكلام إذن : يا محمد أنذر القرآن الذي أنزلته إليك ، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون ، فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير ، في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذّبون بالله واليوم اخر من قومك استكبارا على الله . ولا تطردهم ولا تُقْصِهم ، فتكون ممن وضعَ الإقصاء في غير موضعه فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه ، وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناءَه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته لصالح أعمالهم وأداء ما ألزمهم من فرائضه ونوافل تطوّعهم وذكرهم إيان بألسنتهم بالغداة والعشيّ ، يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنوّ من رضاه . ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيءٍ ، يقول : ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء ، وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء ، فتطردهم حذار محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق . وقوله : فَتَطْرُدَهُمْ : جواب لقوله : ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَليْهِم مِنْ شَيءٍ . وقوله : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ جواب لقوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ .
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش . روي أنهم قالوا : لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمون كعمار وصهيب وخباب وسلمان -جلسنا إليك وحادثناك فقال : " ما أنا بطارد المؤمنين " ، قالوا : فأقمهم عنا إذا جئناك قال " نعم " .
وروي أن عمر رضي الله عنه قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت . والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، وقيل صلاتا الصبح والعصر . وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف . { يريدون وجهه } حال من يدعون ، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر . ورتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم . { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا ، أو ليس عليك اعتبار بواطهنم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم . وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم . وقيل الضمير للمشركين والمعنى : لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه . { فتطردهم } فتبعدهم وهو جواب النفي { فتكون من الظالمين } جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر .
عطف على قوله : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم } [ الأنعام : 51 ] لأنّه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبّرو المشركين . فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها ، كما أنّ تلك أنسبُ بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا ، فلذلك لم يُسلك طريق الإضمار ، فيقال : ولا تَطْردْهُم ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء داعياً إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجيّراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنّهم أولى بذلك المجلس ، كما قال تعالى : { إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتَّبعوه } [ آل عمران : 68 ] .
روى مسلم عن سعد بن أبي وقَّاص قال : كنَّا مع النَّبيء ستة نفر ، فقال المشركون للنبيء : أطرد هؤلاء لا يَجْتَرئُون علينا . قال : وكنت أنا ، وابن مسعود ، ورجل من هُذيل ، وبلال ، ورجلان ، لست أسمِّيهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه فأنزل الله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } اه . وسمّى الواحدي بقيّة الستَّة : وهم صهيب ، وعمّار بن ياسر ، والمقدادُ بن الأسود ، وخبّاب بن الأرتّ . وفي قول ابن مسعود « فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله » إجمال بيِّنه ما رواه البيهقي أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول الله : لو طردت هؤلاء الأعْبُدَ وأرواحَ جِبَابِهم ( جمع جُبّة ) جَلَسْنا إليك وحادثناك . فقال : ما أنا بطارد المؤمنين . فقالوا : فأقمهم عنّا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت ، فقال : نعم ، طَعماً في إيمانهم . فأنزل الله هذه الآية . ووقع في « سنن » ابن ماجة عن خبَّاب أنّ قائل ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم الأقْرعُ بن حابس وعُبَيْنَةُ بن حِصْن ، وأنّ ذلك سبب نزول الآية ، وقال ابن عطية : هو بعيد لأنّ الآية مكية . وعيينة والأقرع إنَّما وفَدا مع وفد بني تميم بالمدينة سنة الوفود . اه . قلت : ولعلّ ذلك وقع منهما فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية التي نزلت في نظير اقتراحهما .
وفي سنده أسباط بن نصر أو نضر ، ولم يكن بالقوي ، وفيه السديّ ضعيف . وروي مثله في بعض التفاسير عن سلمان الفارسي ، ولا يعرف سنده . وسمّى ابنُ إسحاق أنَّهم المستضعفون من المؤمنين وهم : خبَّاب ، وعمَّار ، وأبُو فُكيهة ، يسار مَولى صفوان بن أمية بن مُحرّث ، وصهيب وأشباههم ، وأنّ قريشاً قالوا : { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 53 ] وذكر الواحدي في « أسباب النزول » : أنّ هذه الآية نزلت في حياة أبي طالب . فعن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومُطعِم بن عدي ، والحارثُ بن نوفل ، في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا : لو أنّ ابن أخيك محمداً يَطرد عنه موالينا وعبيدنا وعتقاءنا كان أعظم من صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتِّبَاعِنا إيَّاه وتصديقنا له .
فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي كلَّموه ، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتَّى ننظر ما الذي يريدون وإلامَ يصيرون من قولهم ، فأنزل الله هذه الآية . فلمّا نزلت أقبل عمر يعتذر .
والمعنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأنّ أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنّهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك . وسمَّاه طرداً تأكيداً لمعنى النهي ، وذلك لحكمة : وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك ، لأنّ الله اطّلع على سرائرهم فعلم أنّهم لا يؤمنون ، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة ، وليظهر لهم أنّ أولئك الضعفاء خير منهم ، وأنّ الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين ، وأنّ الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى : { يمنّون عليك أنْ أسلموا قُل لا تَمنُوا عليّ إسلامكم بلْ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .
ومعنى { يدعون ربّهم } يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلاناً بالقول ، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله ، إذ لم يكن يومئذٍ نفاق وإنَّما ظهر المنافقون بالمدينة .
والغداة : أوّل النهار . والعشيّ من الزوال إلى الصباح . والباء للظرفية . والتعريف فيهما تعريف الجنس . والمعنى أنّهم يدعون الله اليوم كلّه . فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة . وكما يقال : الحمد لله بكرة وأصيلاً ، وقيل : أريد بالدعاء الصلاة . وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس . فالمعنى ولا تطرد المصلّين ، أي المؤمنين .
وقرأ الجمهور { بالغَداة } بفتح الغين وبألف بعد الدال . وقرأه ابن عامر بضمّ الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال وهي لغة في الغَدَاة .
وجملة { يريدون وجهه } حال من الضمير المرفوع في { يدعون } ، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله ، أي لا يريدون حظاً دنيوياً .
والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم . ويطلق الوجه على الذات كلّها مجازاً مرسلاً .
والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف ، أي يريدون رضى الله ، أي لا يريدون إرضاء غيره . ومنه قوله تعالى : { إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الإنسان : 9 ] ، وقوله : { فأينما تولّوا فثمّ وجهُ الله } ، وتقدّم في سورة [ البقرة : 115 ] . فمعنى { يريدون وجهه } أنَّهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضاً من الدنيا . وقد قيل : إنّ قريشاً طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق ، إلاّ أنّ هذا لم يرد به أثر صحيح ، فالأظهر أنّ قوله { يريدون وجهه } ثناء عليهم بكمال إيمانهم ، وشهادة لهم بأنَّهم مجرّدون عن الغايات الدنيوية كلّها ، وليس المقصود به الرّدّ على المشركين .
وجملة { ما عليك من حسابهم من شيء } تعليل للنهي عن طردهم ، أو إبطال لعلّة الهَمّ بطردهم ، أو لعلَّة طلب طردهم . فإنّ إبطال علَّة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلاً للنهي ، ولذا فصلت هذه الجملة .
والحسابُ : عَدّ أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبّع الأحوال بعَدّ الأفراد . ومنه جاء معنى الحِسْبةَ بكسر الحاء ، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدّها . ويقال : حاسبَ فلاناً على أعماله إذا استقراها وتتبّعها . قال النابغة :
فالحساب هنا مصدر حاسب . والمراد به تتبّع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء .
وضمير الجمع في قوله : { من حسابهم } وقوله { وما من حسابك عليهم } يجوز أن يكونا عائدين إلى { الذين يَدْعون ربّهم } وهو مَعَاد مَذْكور ، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله { فتطردهم } . فالمعنى أنَّهم أهل الحقّ في مجلسك لأنَّهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين ، وأنّ حضور أولئك في مجلسك يصدّ كبراء المشركين عن الإيمان ، أي أنّ ذلك مدحوض تجاه حقّ المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه .
وقيل معنى : { ما عليك من حسابهم } أنّ المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر ، قالوا : يا محمد إنّ هؤلاء إنّما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنَّهم يجدون مأكولاً وملبوساً عندك ، فقال الله تعالى : ما يلزمك إلاّ اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله ، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح { إنْ حسابُهم إلاّ على ربِّي لو تَشعرون } [ الشعراء : 113 ] . فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم . والقصد من هذا تبكيتُ المشركين على طريقة إرخاء العنان ، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين . و { حسابهم } على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله .
ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكنّه معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول ، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طَرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضمير { فتطردهم } عائداً إلى المؤمنين . ويختلف معاد الضميرين اعتماداً على ما يعيِّنه سياق الكلام ، كقوله تعالى : { وعَمَرُوها أكثر ممَّا عمروها } [ الروم : 9 ] ، وقول عباس بن مرداس في وقعة حنين :
عُدْنَا ولولا نَحْنُ أحْدَقَ جَمعُهم *** بالمسلمين وأَحرَزُوا ما جَمَّعُوا
أي أحرز المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم .
والمعنى : ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بِك أو على عدم الإيمان شيء ، فإنّ ذلك موكول إليّ فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقّاً لأجل تحصيل إيمان المشركين ، فيكون من باب قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أوْلَى بهما فلا تتَّبعوا الهوى أن تعدلوا } [ النساء : 135 ] .
وعلى هذا الوجه يجوز كون إضافة { حسابهم } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي محاسبتك إيّاهم . ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله ، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرَهم وضعفهم .
و { عليك } خبر مقدّم . و ( على ) فيه دالّة على معنى اللزوم والوجوب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام همّ أو كان بحيث يهمّ بإجابة صناديد قريش لما سألوه ، فيكون تنبيهاً على أنّ تلك المصلحة مدحوضة .
و ( منْ ) في قوله : { من شيء } زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي ، وهو الحرف الذي بتقديره بُني اسم ( لا ) على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس .
وتقديم المسنَدَين على المسند إليهما في قوله { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } تقديم غير واجب لأنّ للابتداء بالنكرتين هنا مسوّغاً ، وهو وقوعهما في سياق النفي ، فكان تقديم المجرورين هنا اختيارياً فلا بدّ له من غرض . والغرض يحتمل مجرّدَ الاهتمام ويحتمل الاختصاص . وحيث تأتّى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام ، ولذلك جرى عليه كلام « الكشاف » . وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليفيد أنّ حسابهم على غيره وهو الله تعالى . وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي ، وهو مفاد خِفي على كثير لقلّة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي . ومثالُه المشهور قوله تعالى : { لا فيها غوْل } [ الصافات : 47 ] فإنَّهم فسّروه بأنّ عدم الغول مقصور على الاتِّصاف بفِي خمور الجنَّة ، فالقصر قصر قلب .
وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكِّدات . وهي ( مِنْ ) البيانية ، و ( مِنْ ) الزّائدة ، وتقديم المعمول ، وصيغة الحصر في قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } ، والتأكيدُ بالتَّتميم بنفي المقابل في قوله : { وما من حسابك عليهم من شيء } ، فإنَّه شبيه بالتوكيد اللفظي . وكلّ ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم .
ويُفيد هذا الكلام التعريضَ برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام حين ما يحضرون وأوهموا أنّ ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به والكون من أصحابه ، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقضي أصحابَه عن مجلسه ليعلم السائلون أنّهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على كذبهم ، وأنّهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خُوَيْصتِهم ، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى : { لئن أشركتَ ليحبطنّ عَمَلُك } [ الزمر : 65 ] . وقد صرّح بذلك في قوله بعدُ { ولتستبين سبيل المجرمين } [ الأنعام : 55 ] . وإذ كان القصر ينحلّ على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدّرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين ، أي عدم حسابهم مقصور عليك ، فحسابهم على أنفسهم إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة .
وقد دلّ على هذا أيضاً قوله بعده { ومَا من حسابك عليهم من شيء } فإنّه ذُكر لاستكمال التعليل ، ولذلك عطف على العلّة ، لأنّ مجموع مدلول الجملتين هو العلّة ، أي حسابهم ليس عليك كما أنّ حسابك ليس عليهم بل على نفسك ، إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزْر أخرى . فكما أنّك لا تنظُر إلاّ إلى أنَّهم مؤمنون ، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلّق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه . وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق .
وفي قوله : { وما من حسابك عليهم من شيء } تعريض بالمشركين بأنَّهم أظهروا أنّهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنَّهم يؤمنون به فيكثر متَّبعوه .
ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى : بل حسابهم على الله وحسابك على الله ، لأنّ هذا غير مناسب لسياق الآية ، ولأنَّه يصير به قوله : { وما من حسابك عليهم من شيء } مستدركاً في هذا المقام ، ولذلك لم يتكرّر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح { إن حسابهم إلاّ على ربِّي } في سورة [ الشعراء : 113 ] لأنّ ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله ، فتنبّهْ .
ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرّد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دلّ عليه حرف ( على ) في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله وَمَا مِن حسابك عليهم من شيء } غيرُ واضح ، لأنَّنا إذا سلَّمنا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام شِبْه اعتقاد لزوممِ تتَّبع أحوالهم فقُلب ذلك الاعتقاد بالقصر ، لا نجد ذلك بالنسبة إلى { الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي } إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن .
وقدّم البيان على المبيَّن في قوله : { وما من حسابك عليهم من شيء } لأنّ الأهمّ في المقامين هو ما يختصّ بالمخاطب المعرِّضُ فيه بالذين سألوه الطرد لأنَّه المقصود بالذات ، وإنَّما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدّم .
وقوله : { فتطردهم } منصوب في جواب النهي الذي في قوله : { ولا تطرُد الذين يدعون ربَّهم } . وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله : { فتكونَ من الظالمين } ، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله { فتكون من الظالمين } لوقوع طول الفصل بين التفريع والفرّع عليه . فحصل بإعادة فعل { فتطردهم } غرضان لفظي ومعنوي .
على أنَّه يجوز أن يجعل { فتطردهم } منصوباً في جواب النفي من قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } ، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم .
وقوله : { فتكون من الظالمين } عطف على { فتطردهم } متفرّع عليه ، أي فتكون من الظالمين بطردهم ، أي فكونه من الظالمين منتف تبعاً لانتفاء سببه وهو الطرد .
وإنَّما جُعل طردهم ظلماً لأنَّه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلماً لهم . وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنَّهم ظالمون مفطرون على الظلم ؛ ويجوز أن يجعل قوله : { فتكون من الظالمين } منصوباً في جواب النهي ، ويجعل قوله { فتطردهم } جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل ؛ فكان قوله { فتطردهم } كالمقدّمة لقوله { فتكون من الظالمين } وليس مقصودٌ بالذات للجوابية ؛ فالتقدير : فتكون من الظالمين بطردهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك. عن ابن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية:"وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدونَ وَجْهَه وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ..." إلى آخر الآية.
ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: "وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا... "واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرهط الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم يدعون ربهم به، فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. عن ابن عباس، قوله: "وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ" يعني: يعبدون ربهم بالغداة والعشيّ، يعني الصلوات المكتوبة...
وقال آخرون: هي الصلاة، ولكن القوم لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد هؤلاء الضعفاء عن مجلسه ولا تأخيرهم عن مجلسه، وإنما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأوّل حتى يكونوا وراءهم في الصفّ. وقال آخرون: بل معنى دعائهم كان ذكرهم الله تعالى.
وقال آخرون: بل كان ذلك تعلمهم القرآن وقراءته.
وقال آخرون: بل عَنَى بدعائهم ربهم عبادَتهم إياه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ، والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولاً وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمال التي كان عليهم فرضها وغيرها من النوافل التي ترضي، والعامل له عابده بما هو عامل له، وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشيّ، لأن الله قد سمى العبادة دعاء، فقال تعالى: "وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ". وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء، ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ فيعمّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء دون شيء. فتأويل الكلام إذن: يا محمد أنذر بالقرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون، فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير، في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذّبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله. ولا تطردهم ولا تُقْصِهم، فتكون ممن وضعَ الإقصاء في غير موضعه فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته لصالح أعمالهم وأداء ما ألزمهم من فرائضه ونوافل تطوّعهم وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشيّ، يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنوّ من رضاه. "ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيءٍ"، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء، وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء، فتطردهم حذار محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق. وقوله: "فَتَطْرُدَهُمْ": جواب لقوله: "ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَليْهِم مِنْ شَيءٍ". وقوله: "فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ" جواب لقوله: "وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجائز أن يكون هذا من الله ابتداء تأديب وتعليم؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم كقوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الكهف: 28]، [ونهيا عن] أن يمد عينيه إلى ما متع أولئك كقوله: {لا تمدن عينيك} الآية [الحجر: 88]، ويخبره عن عظيم قدرهم عند الله. وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع الحظر، بل العصمة تزيد في النهي والزجر. وأخبر أن ليس عليه {من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} فإنما عليك البلاغ، وعليهم الإجابة، وهو كقوله تعالى: {فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} [النور: 54]... وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية عن الليل كله وعن النهار جملة، كقوله تعالى: {والضحى} {والليل إذا سجى} [الضحى: 1 و2] ليس يريد بالضحى الضحوة خاصة، ولكن [يريد] النهار كله. ألا ترى أنه قال: {والليل إذا سجى}؟ ذكر الليل دل أنه كان الضحى كناية عن النهار جملة. فعلى ذلك [ذكر] الغداة والعشي يجوز أن يكون كناية عن الليل والنهار جملة، والله أعلم... وقوله تعالى: {فتطردهم فتكون من الظالمين} [الظلم] على وجوه: ظلم كفر، وظلم شرك، وظلم يكون بدونهما؛ وهو أن يمنع [أحد، أو يؤخذ منه حقه] بغير حق. فهو كله ظلم. والظلم ههنا، والله أعلم، يشبه أن يكون هو وضع الحكمة في غير أهلها؛ لأنه لو كان منه ما ذكر من طرد أولئك وإدناء أولئك، لم يكن أهلا للحكمة، ويجوز أن يوصف واضع الحكمة في غير موضعها بالظلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ومعنى قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فيه قولان: أحدهما: يريدونه بدعائهم، لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم: هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً. والثاني: معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه. {مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم من شَيْءٍ} فيه ثلاث أقوال: أحدها: يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب. {وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم من شَيْءٍ} يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء، لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غيره، قاله الحسن. والثاني: معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء. والثالث: ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها، والمراد بذكر الغداة والعشي: الدوام. وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمره بدعاء من أعرض عنه ومجاهرته، أمره بحفظ من تبعه وملاطفته، فقال: {ولا تطرد الذين يدعون} وهم الفقراء من المسلمين {ربهم} أي المحسن إليه عكس ما عليه الكفار في دعاء من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً؛ ثم بين من حالهم من الملازمة ما يقتضي الإخلاص فقال: {بالغداة والعشي} أي في طرفي النهار مطلقاً أو بصلاتيهما أو يكون كناية عن الدوام؛ ثم أتبع ذلك نتيجته فقال معبراً عن الذات بالوجه، لأنه أشرف -على ما نتعارفه- وتذكّره يوجب التعظيم ويورث الخجل من التقصير: {يريدون وجهه} أي لأنه لو كان رياء لاضمحل على طول الزمان وتناوب الحدثان باختلاف الشأن.
ولما كان أكابر المشركين وأغنياؤهم قد وعدوه صلى الله عليه وسلم الاتباع إن طرد من تبعه ممن يأنفون من مجالستهم، وزهدوه فيهم بفقرهم وبأنهم غير مخلصين في اتباعه، إنما دعاهم إلى ذلك الحاجة؛ بين له تعالى أنه لا حظ له في طردهم ولا في اتباع أولئك بهذا الطريق إلا من جهة الدنيا التي هو مبعوث للتنفير عنها، فقال معللاً لما مضى أو مستأنفاً: {ما عليك} قدم الأهم عنده وهو تحمله {من حسابهم} وأغرق في النفي فقال: {من شيء} أي ليس لك إلا ظاهرهم، وليس عليك شيء من حسابهم، حتى تعاملهم بما يستحقون في الباطن من الطرد إن كانوا غير مخلصين {وما من حسابك} قدم أهم ما إليه أيضاً {عليهم من شيء} أي وليس عليهم شيء من حسابك فتخشى أن يحيفوا عليك فيه على تقدير غشهم، أو ليس عليك من رزقهم شيء فيثقلوا به عليك، وما من رزقك عليهم من شيء فيضعفوا عنه لفقرهم، بل الرازق لك ولهم الله؛ ثم أجاب النفي مسبباً عنه فقال: {فتطردهم} أي فتسبب عن أحد الشيئين طردك لهم ليقبل عليك الأغنياء فلا يكلفوك ما كان أولئك يكلفونك، وإن كلفتهم ما كان أولئك عاجزين عنه أطاقوه؛ والحاصل أنه يجوز أن يكون معنى جملتي {ما عليك من حسابهم} -إلى آخرهما راجعاً إلى آية الكهف
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 28] فيكون المعنى ناظراً إلى الرزق، يعني أن دعاءك إلى الله إنما مداره الأمر الأخروي، فليس شيء من رزق هؤلاء عليك حتى تستنفر بهم وترغب في الأغنياء، ولا شيء من رزقك عليهم فيعجزوا عنه، وفي اللفظ من كلام أهل اللغة ما يقبل هذا المعنى؛ قال صاحب القاموس وغيره: الحساب: الكافي ومنه {عطاء حساباً} [النبأ: 36] وحسّب فلان فلاناً: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي. وقال أبو عبيد الهروي: يقال: أعطيته فأحسبته، أي أعطيته الكفاية حتى قال: حسبي، وقوله {يرزق من يشاء بغير حساب} [البقرة: 212] أي بغير تقتير وتضييق، وفي حديث سماك: ما حسبوا ضيفهم، أي ما أكرموه، وقال ابن فارس في المجمل: وأحسبته: أعطيته ما يرضيه، وحسّبته أيضاً، وأحسبني الشيء: كفاني.
ولما نهاه عن طردهم مبيناً أنه ضرر لغير فائدة، سبب عن هذا النهي قوله {فتكون من الظالمين} أي بوضعك الشيء في غير محله، فإن طردك هؤلاء ليس سبباً لإيمان أولئك، وليس هدايتهم إلا إلينا، وقد طلبوا منا فيك لما فتناهم بتخصيصك بالرسالة ما لم يخف عليك من قولهم {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] ونحوه مما أرادوا به الصرف عنك، فكما لم نقبلهم فيك فلا تقبلهم أنت في أوليائنا، فإنا فتناهم بك حتى سألوا فيك ما سألوا وتمنوا ما تمنوا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)..
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء؛ يريدون وجهه سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه.. وهي صورة للتجرد، والحب، والأدب.. فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء. وهو لا يبغي وجه الله، إلا إذا تجرد. وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب. وهو لا يفرد الله -سبحانه- بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب، وصار ربانيا يعيش لله وبالله..
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من "أشراف "العرب، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم يؤوي إليه الفقراء الضعاف، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود.. ومن إليهم.. وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه.. فأبى.. فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي! فهم صلى الله عليه وسلم رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه. فجاءه أمر ربه:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)..
روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما.. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)..
ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف، الذين يخصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه وبعنايته؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.. فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا:
(ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين)
فإن حسابهم على أنفسهم، وحسابك على نفسك. وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله، لا شأن لك به. كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به. ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه. فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله، ولا تقوم بقيمة.. فكنت من الظالمين.. وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون من الظالمين!
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه. واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله..
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم} [الأنعام: 51] لأنّه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبّرو المشركين. فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها، كما أنّ تلك أنسبُ بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا، فلذلك لم يُسلك طريق الإضمار، فيقال: ولا تَطْردْهُم، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء داعياً إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجيّراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنّهم أولى بذلك المجلس، كما قال تعالى: {إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتَّبعوه} [آل عمران: 68].
... والمعنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأنّ أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنّهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك. وسمَّاه طرداً تأكيداً لمعنى النهي، وذلك لحكمة: وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك، لأنّ الله اطّلع على سرائرهم فعلم أنّهم لا يؤمنون، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وليظهر لهم أنّ أولئك الضعفاء خير منهم، وأنّ الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين، وأنّ الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى: {يمنّون عليك أنْ أسلموا قُل لا تَمنُوا عليّ إسلامكم بلْ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17].
ومعنى {يدعون ربّهم} يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلاناً بالقول، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله، إذ لم يكن يومئذٍ نفاق وإنَّما ظهر المنافقون بالمدينة.
والغداة: أوّل النهار. والعشيّ من الزوال إلى الصباح. والباء للظرفية. والتعريف فيهما تعريف الجنس. والمعنى أنّهم يدعون الله اليوم كلّه. فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة. وكما يقال: الحمد لله بكرة وأصيلاً، وقيل: أريد بالدعاء الصلاة. وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس. فالمعنى ولا تطرد المصلّين، أي المؤمنين.
وقرأ الجمهور {بالغَداة} بفتح الغين وبألف بعد الدال. وقرأه ابن عامر بضمّ الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال وهي لغة في الغَدَاة.
وجملة {يريدون وجهه} حال من الضمير المرفوع في {يدعون}، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله، أي لا يريدون حظاً دنيوياً.
والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم. ويطلق الوجه على الذات كلّها مجازاً مرسلاً.
والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف، أي يريدون رضى الله، أي لا يريدون إرضاء غيره. ومنه قوله تعالى: {إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} [الإنسان: 9]، وقوله: {فأينما تولّوا فثمّ وجهُ الله}، وتقدّم في سورة [البقرة: 115]. فمعنى {يريدون وجهه} أنَّهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضاً من الدنيا. وقد قيل: إنّ قريشاً طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق، إلاّ أنّ هذا لم يرد به أثر صحيح، فالأظهر أنّ قوله {يريدون وجهه} ثناء عليهم بكمال إيمانهم، وشهادة لهم بأنَّهم مجرّدون عن الغايات الدنيوية كلّها، وليس المقصود به الرّدّ على المشركين.
وجملة {ما عليك من حسابهم من شيء} تعليل للنهي عن طردهم، أو إبطال لعلّة الهَمّ بطردهم، أو لعلَّة طلب طردهم. فإنّ إبطال علَّة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلاً للنهي، ولذا فصلت هذه الجملة.
والحسابُ: عَدّ أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبّع الأحوال بعَدّ الأفراد. ومنه جاء معنى الحِسْبةَ بكسر الحاء، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدّها. ويقال: حاسبَ فلاناً على أعماله إذا استقراها وتتبّعها...
... فالحساب هنا مصدر حاسب. والمراد به تتبّع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء.
وضمير الجمع في قوله: {من حسابهم} وقوله {وما من حسابك عليهم} يجوز أن يكونا عائدين إلى {الذين يَدْعون ربّهم} وهو مَعَاد مَذْكور، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله {فتطردهم}. فالمعنى أنَّهم أهل الحقّ في مجلسك لأنَّهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين، وأنّ حضور أولئك في مجلسك يصدّ كبراء المشركين عن الإيمان، أي أنّ ذلك مدحوض تجاه حقّ المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه.
وقيل معنى: {ما عليك من حسابهم} أنّ المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر، قالوا: يا محمد إنّ هؤلاء إنّما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنَّهم يجدون مأكولاً وملبوساً عندك، فقال الله تعالى: ما يلزمك إلاّ اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح {إنْ حسابُهم إلاّ على ربِّي لو تَشعرون} [الشعراء: 113]. فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم. والقصد من هذا تبكيتُ المشركين على طريقة إرخاء العنان، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين. و {حسابهم} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله.
ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكنّه معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طَرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضمير {فتطردهم} عائداً إلى المؤمنين. ويختلف معاد الضميرين اعتماداً على ما يعيِّنه سياق الكلام، كقوله تعالى: {وعَمَرُوها أكثر ممَّا عمروها} [الروم: 9]
.. والمعنى: ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بِك أو على عدم الإيمان شيء، فإنّ ذلك موكول إليّ فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقّاً لأجل تحصيل إيمان المشركين، فيكون من باب قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أوْلَى بهما فلا تتَّبعوا الهوى أن تعدلوا} [النساء: 135].
وعلى هذا الوجه يجوز كون إضافة {حسابهم} من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي محاسبتك إيّاهم. ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرَهم وضعفهم.
و {عليك} خبر مقدّم. و (على) فيه دالّة على معنى اللزوم والوجوب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام همّ أو كان بحيث يهمّ بإجابة صناديد قريش لما سألوه، فيكون تنبيهاً على أنّ تلك المصلحة مدحوضة.
و (منْ) في قوله: {من شيء} زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي، وهو الحرف الذي بتقديره بُني اسم (لا) على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس.
وتقديم المسنَدَين على المسند إليهما في قوله {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} تقديم غير واجب لأنّ للابتداء بالنكرتين هنا مسوّغاً، وهو وقوعهما في سياق النفي، فكان تقديم المجرورين هنا اختيارياً فلا بدّ له من غرض. والغرض يحتمل مجرّدَ الاهتمام ويحتمل الاختصاص. وحيث تأتّى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام، ولذلك جرى عليه كلام « الكشاف». وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليفيد أنّ حسابهم على غيره وهو الله تعالى. وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي، وهو مفاد خِفي على كثير لقلّة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي. ومثالُه المشهور قوله تعالى: {لا فيها غوْل} [الصافات: 47] فإنَّهم فسّروه بأنّ عدم الغول مقصور على الاتِّصاف بفِي خمور الجنَّة، فالقصر قصر قلب.
وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكِّدات. وهي (مِنْ) البيانية، و (مِنْ) الزّائدة، وتقديم المعمول، وصيغة الحصر في قوله: {ما عليك من حسابهم من شيء}، والتأكيدُ بالتَّتميم بنفي المقابل في قوله: {وما من حسابك عليهم من شيء}، فإنَّه شبيه بالتوكيد اللفظي. وكلّ ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم.
ويُفيد هذا الكلام التعريضَ برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام حين ما يحضرون وأوهموا أنّ ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به والكون من أصحابه، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقضي أصحابَه عن مجلسه ليعلم السائلون أنّهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على كذبهم، وأنّهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خُوَيْصتِهم، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى: {لئن أشركتَ ليحبطنّ عَمَلُك} [الزمر: 65]. وقد صرّح بذلك في قوله بعدُ {ولتستبين سبيل المجرمين} [الأنعام: 55]. وإذ كان القصر ينحلّ على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدّرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين، أي عدم حسابهم مقصور عليك، فحسابهم على أنفسهم إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة.
وقد دلّ على هذا أيضاً قوله بعده {ومَا من حسابك عليهم من شيء} فإنّه ذُكر لاستكمال التعليل، ولذلك عطف على العلّة، لأنّ مجموع مدلول الجملتين هو العلّة، أي حسابهم ليس عليك كما أنّ حسابك ليس عليهم بل على نفسك، إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزْر أخرى. فكما أنّك لا تنظُر إلاّ إلى أنَّهم مؤمنون، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلّق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه. وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق.
وفي قوله: {وما من حسابك عليهم من شيء} تعريض بالمشركين بأنَّهم أظهروا أنّهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنَّهم يؤمنون به فيكثر متَّبعوه.
ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى: بل حسابهم على الله وحسابك على الله، لأنّ هذا غير مناسب لسياق الآية، ولأنَّه يصير به قوله: {وما من حسابك عليهم من شيء} مستدركاً في هذا المقام، ولذلك لم يتكرّر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح {إن حسابهم إلاّ على ربِّي} في سورة [الشعراء: 113] لأنّ ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله، فتنبّهْ.
ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرّد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دلّ عليه حرف (على) في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله وَمَا مِن حسابك عليهم من شيء} غيرُ واضح، لأنَّنا إذا سلَّمنا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام شِبْه اعتقاد لزوممِ تتَّبع أحوالهم فقُلب ذلك الاعتقاد بالقصر، لا نجد ذلك بالنسبة إلى {الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي} إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن.
وقدّم البيان على المبيَّن في قوله: {وما من حسابك عليهم من شيء} لأنّ الأهمّ في المقامين هو ما يختصّ بالمخاطب المعرِّضُ فيه بالذين سألوه الطرد لأنَّه المقصود بالذات، وإنَّما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدّم.
وقوله: {فتطردهم} منصوب في جواب النهي الذي في قوله: {ولا تطرُد الذين يدعون ربَّهم}. وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله: {فتكونَ من الظالمين}، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله {فتكون من الظالمين} لوقوع طول الفصل بين التفريع والفرّع عليه. فحصل بإعادة فعل {فتطردهم} غرضان لفظي ومعنوي.
على أنَّه يجوز أن يجعل {فتطردهم} منصوباً في جواب النفي من قوله: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء}، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم.
وقوله: {فتكون من الظالمين} عطف على {فتطردهم} متفرّع عليه، أي فتكون من الظالمين بطردهم، أي فكونه من الظالمين منتف تبعاً لانتفاء سببه وهو الطرد.
وإنَّما جُعل طردهم ظلماً لأنَّه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلماً لهم. وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنَّهم ظالمون مفطرون على الظلم؛ ويجوز أن يجعل قوله: {فتكون من الظالمين} منصوباً في جواب النهي، ويجعل قوله {فتطردهم} جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل؛ فكان قوله {فتطردهم} كالمقدّمة لقوله {فتكون من الظالمين} وليس مقصودٌ بالذات للجوابية؛ فالتقدير: فتكون من الظالمين بطردهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة وضجاتها ولجاجة القوة، وخصوصا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق، فنفوسهم تكون أقرب الى الفطرة والاستقامة؛ ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم من الضعفاء والعبيد وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا ورجاء حياة أخرى، ولقد سأل هرقل ملك الرومان أبا سفيان ابن حرب الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال:بل ضعفاؤهم فقال: هرقل فكذلك أتباع الرسل.