ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا . . } .
والظرف متلعق بمحذوف تقديره : اذكر . وقوله { يُعْرَضُ } من العرض بمعنى الوقوف على الشئ ، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشئ من خير أو شر .
والمراد بالعرض على النار هنا : مباشرة عذابها ، وإلقائهم فيها ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الآلوسى : قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } . أى : يعذبون بها ، من قولهم : عُرِض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به ، وهو مجاز شائع . .
وقوله : { أَذْهَبْتُمْ . . } إلخ مقول لقول محذوف . وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر { أأذهبتم } بهمزتين على الاستفهام الذى هو للتقريع والتوبيخ ، وقرأه الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .
أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم يقف الذين كفروا على النار ، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها ، ويقال لهم - على سبيل الزجر والتأنيب - { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا } أى : ضيعتم وأتلفتم بالطيبات التى أنعم الله بها عليكم فى حياتكم الدنيا ، حيث { استمتعتم بِهَا } استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا . .
{ فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أى : تجزون عذاب الهون والخزى والذل .
{ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أى : بسبب استكبارهم فى الأرض بغير الحق . .
{ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أى : وبسبب خروجكم فى الدنيا عن طاعة الله - تعالى - ، وعن هدى أنبيائه .
وقيد - سبحانه - استكبارهم فى الأرض بكونه بغري الحق ، ليسجل عليهم هذه الرذيلة ، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق .
قال الجمل : والحاصل أنه - تعالى - علل ذلك العذاب بأمرين :
أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب .
والثانى : الفسق وهو ذنب الجوارح ، وقدم الأول على الثانى ، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله عَلى النّارِ يقال لهم : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا على النّارِ قرأ يزيد حتى بلغ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تعلمون والله إن أقواما يَسْترطون حسناتهم . استبقى رجل طيباته إن استطاع ، ولا قوّة إلا بالله . ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي . وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم ، صُنِع له طعام لم ير قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر ، وقال : لئن كان حظنا في الحُطام ، وذهبوا قال أبو جعفر : فيما أرى أنا بالجنة ، لقد باينونا بونا بعيدا .
وذُكر لنا . أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصّفة مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين ، وهم يَرْقعون ثيابهم بالأَدَم ، ما يجدون لها رقاعا ، قال : «أنتم اليوم خير ، أو يَوم يغدو أحدكم في حلة ، ويروح في أُخرى ، ويغدي عليه بجفنة ، ويُراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة » . قالوا : نحن يومئذٍ خير ، قال : «بل أنتم اليوم خير » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة ، قال : «إنما كان طعامنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسودين : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه ، ولا ندري ما هي » .
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ ، عن أبيه ، قال : أي بنيّ لو شهدتْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء ، حسبت أن ريحنا ريح الضأن ، إنما كان لباسنا الصوف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا . . . إلى آخر الاَية ، ثم قرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ . . . إلى آخر الاَية ، وقال : هؤلاء الذين أذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أذْهَبْتُمْ بغير استفهام ، سوى أبي جعفر القارىء ، فإنه قرأه بالاستفهام ، والعرب تستفهم بالتوبيخ ، وتترك الاستفهام فيه ، فتقول : أذهبت ففعلت كذا وكذا ، وذهبت ففعلت وفعلت . وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ولأنه أفصح اللغتين .
وقوله فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ يقول تعالى ذكره : يقال لهم : فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون : أي تثابون عذاب الهون ، يعني عذاب الهوان ، وذلك عذاب النار الذي يهينهم . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عَذَابَ الهُونِ قال : الهوان بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول : بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم ، فتأبون أن تخلصوا له العبادة ، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ ، أي بغير ما أباح لكم ربكم ، وأذن لكم به وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ يقول : بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه .
{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعذبون بها . وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم : عرضت الناقة على الحوض . { أذهبتم } أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين . { طيباتكم } لذاتكم . { في حياتكم الدنيا } باستيفائها . { واستمتعتم بها } فما بقي لكم منها شيء . { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان وقد قرئ به . { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله ، وقرئ { تفسقون } بالكسر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.