التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور } .

والذلول : السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها ؛ من مَشْي عليها ، أو غَرْس فيها ، أو بناء فوقها . . من الذِّل وهو سهولة الانقياد للغير ، ومنه قوله - تعالى - : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ . . . } أي : غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض . .

والأمر في قوله : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } للإباحة ، والمناكب جمع منكب ، وهو ملتقى الكتف مع العضد ، والمراد به هنا : جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها

وهو مثل لفرط التذليل ، وشدة التسخير .

أي : هو - سبحانه - الذي جعل لكم - لفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء ، مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها ، أو البناء فوقها ، أو غرس النبات فيها .

وما دام الأمر كذلك فامشوا فى جوانبها وأطرافها وفجاجها ، ملتمسين رزق ربكم فيها ، وداوموا على ذلك ، ففي الحديث الشريف : " التمسوا الرزق في خبايا الأرض " .

والمراد بقوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل ، لأنه أهم وجوه الانتفاع .

فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم ، وسائر أمور معاشهم . . فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم .

قال بعض العلماء : قال الإِمام النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإِسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة ، لتستغني عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإِنتاج .

وقد أعطى الله - تعالى - العالم الإِسلامى الأولوية في هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا .

وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً . . } فقال ما ملخصه : والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها . ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها ، والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد ، وكل جيل ، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول .

والله - تعالى - جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها ، ومن حيث سطحها ، ومن حيث تكوينها ، ومن حيث إحاطة الهواء بها ، ومن حيث حجمها .

وقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } معطوف على ما قبله ، لبيان أن مصيرهم إليه - تعالى - بعد قضائهم في الأرض المذللة لهم ، مدة حياتهم .

أي : وإليه وحده مرجعكم ، وبعثكم من قبوركم ، بعد أن قضيتم على هذه الأرض ، الأجل الذي قدره - سبحانه - لكم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

وقوله : هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يقول تعالى ذكره : الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً سْهلاً ، سَهّلها لكم فامْشُوا فِي مَناكِبها .

واختلف أهل العلم في معنى مَناكِبها فقال بعضهم : مناكبها : جبالها . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فِي مَناكِبها يقول : جبالها .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الاَية : فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجارية له : إن دَرَيْت ما مناكُبها ، فأنت حرّة لوجه الله قالت : فإن مناكبها : جبالها ، فكأنما سُفِع في وجهه ، ورغب في جاريته . فسأل ، منهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخير في طمأنينة ، والشرّ في ريبة ، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يَريبك .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب ، بمثله سواء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فامْشُوا في مَناكِبها : جبالها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله فِي مَناكِبها قال : في جبالها .

وقال آخرون : مَناكِبها : أطرافها ونواحيها . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها يقول : امشوا في أطرافها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن بشير بن كعب العدويّ ، قرأ هذه الاَية فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجاريته : إن أخبرتني ما مناكبها ، فأنت حرّة ، فقالت : نواحيها فأراد أن يتزوّجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : إن الخير في طمأنينة ، وإن الشرّ في ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها قال : طرقها وفجاجها .

وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فامشوا في نواحيها وجوانبها ، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه .

وقوله : وكُلُوا مِنْ رزْقِهِ يقول : وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض ، وَإلَيْهِ النّشُورُ يقول تعالى ذكره : وإلى الله نشركم من قبوركم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ، لينة يسهل لكم السلوك فيها ، فامشوا في مناكبها ، في جوانبها أو جبالها ، وهو مثل لفرط التذليل ، فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له . فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها ، لم يبق شيء لم يتذلل . وكلوا من رزقه ، والتمسوا من نعم الله . وإليه النشور ، المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم .