ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب ، الشاكين فى صدقه ، سوف يجمعهم الله - تعالى - مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال - تعالى - { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وقد وردت فى هذه الآية الكريمة عدة قراءات متوارتة منها : قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل فى تخريجها :
إن لفظ { كلا } اسم { إن } والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام فى ، { لما } هى الداخلة فى خبر { إن } وما بعد اللام هو حرف " من " الذى هو من حروف الجر ، و " ما " موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيحكون تقدير الكلام : وإن كلا " لمن ما " فقلبت النون ميما للإِدغام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت " لما " والجار والمجرور خبر " إن " ، واللام فى { ليوفينهم } ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة { لما } .
والتقدير : وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك ليوفينهم - سبحانه - جزاء أعمالهم بدون أن يلفت منهم أحد ، إنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها .
وفى الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك فى نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد - أيضا - فى أن ما عليه المشركون هو الباطل الذى لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذى تلقاه الخلف عن السلف .
وكان مقتضى حال الدعوة الإِسلامية فى تلكالفترة التى نزلت فيها هذه السورة - وهى فترة ما بعد حادث الإِسراء والمعراج وقبل الهجرة - يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين .
قال الإِمام الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجيزة على المستحقين فى هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات :
أولها : كلمة " إن " وهى للتأكيد ، وثانيها كلمة " كل " وهى أيضا للتأكيد ، وثالثها : اللام الداخلة على خبر " إن " وهى تفيد التأكيد - أيضا - ، ورابعها حرف " ما " إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها : القسم المضمر فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم : وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها : النون المؤكدة فى قوله " ليوفينهم " .
فجميع هذه المؤكدات السبتعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ كُلاّ لّمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرأة أهل المدينة والكوفة : وَإنّ مشددة كُلاّ لمّا مشدّدة .
واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ؛ فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ لمما ليوفيهم ربك أعمالهم ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر :
وإنّي لَمّا أُصْدِرُ الأمْرَ وَجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيا بالنّبِيل مَصَادِرُه
ثم تخفف ، كما قرأ بعض القرأة : { والبَغْي يَعِظُكُمْ } ، يخفف الياء مع الياء ، وذكر أن الكسائي أنشده :
وأشْمَتّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوا *** لَدَيْ يَتَباشَرُونَ بِمَا لَقَيْنَا
وقال : يريد : لديّ يتباشرون بما لقينا ، فحذف «ياء » لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله :
كأنَّ مِنْ آخرَها إلقادِم *** مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخارِمِ
وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإنّ كُلاّ شديدا وحقّا ليوفيهم ربك أعمالهم . قال : وإنما يراد إذا قرىء ذلك كذلك : وإنّ كُلاّ لَمّا بالتشديد والتنوين ، ولكن قارىء ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ : «فَعْلَى » ، لما كما فعل ذلك في قوله : { ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى } ، فقرأ «تترى » بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : «لَمّا » بالتنوين ، وقرأ آخرون بغير تنوين ، كما قرأ لَمّا بغير تنوين من قرأه ، وقالوا : أصله من اللمّ ، من قول الله تعالى : { وتَأْكُلُونَ التّراثَ أكْلاً لَمّا } ، يعني : أكلاً شديدا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ إلا ليوفيهم ، كما يقول القائل : لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا . ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزا توجيه «لما » إلى معنى «إلا » في اليمين خاصة ، وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا ، جاز أن يقال : قام القوم لما أخاك ، بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول إلا فيه . وأنا أرى أن ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية إنّ في فساده ، وهو أنّ «إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له ، و «إلا » أيضا تحقيق أيضا ، وإنما تدخل نقضا لجحد قد تقدمها . فإذا كان ذلك معناها : فواجب أن تكون عند متأوّلها التأويل الذي ذكرنا عنه ، أن تكون بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون إلا نقضا لها . وذلك إن قاله قائل ، قولٌ لا يخفى جهل قائله ، اللهمّ إلا أن يخفف قارىء «إنّ » ، فيجعلها بمعنى : «إن » التي تكون بمعنى الجحد . وإن فعل ذلك فسدت قراءته ذلك كذلك أيضا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئد ناصبا ل «كلّ » ، بقوله : ليوفيهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد «إلا » من الفعل الاسم الذي قبلها ، لا تقول العرب : ما زيدا إلا ضربت ، فيفسد ذلك إذا قرىء كذلك من هذا الوجه إلا أن يرفع رافع الكلّ ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرأة وخطّ مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب بخروجه من معروف كلام العرب . وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين ) ، { وإنْ كُلاّ } ، بتخفيف «إن » ونصب «كلاّ لمّا » مشددة . وزعم بعض أهل العربية أن قارىء ذلك كذلك أراد «إنّ » الثقيلة ، فخففها . وذُكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : كأنْ ثدييه حُقّان ، فنصب ب «كأنْ » ، والنون مخففة من «كأن » ، ومنه قول الشاعر :
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النّحْرِ *** كأنْ ثَدْيَيْهِ حُقّانٍ
وقرأ ذلك بعض المدنين بتخفيف «إنّ » ونصب «كُلاّ » وتخفيف «لَمَا » . وقد يحتمل أن يكون قارىء ذلك كذلك قصد المعنى الذي حكيناه عن قارىء الكوفة من تخفيفه نون «إن » ، وهو يريد تشديدها ، ويريد بما التي في «لَمَا » التي تدخل في الكلام صلة ، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى : وإن كلاّ ليوفينهم ، ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإنْ كُلاّ ليوفينهم ، أيْ : ليوفّينّ كُلاّ ، فيكون نيته في نصب «كلّ » كانت بقوله : «ليَوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب ، وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها .
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : «وإنّ » مشددة «كُلاّ لَمَا » مخففة ، لَيُوفّيَنّهُمْ ، ولهذه القراءة وجهان من المعنى : أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإنّ كُلاّ لمَنْ ليوفيهم ربك أعمالهم ، فيوجه «ما » التي في «لما » إلى معنى «مَنْ » ، كما قال جلّ ثناؤه : { فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم ، وينوي باللام التي في «لما » اللام التي يتلقى بها «وإن » جوابا لها ، وباللام التي في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام اليمين دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جلّ ثناؤه : { وإنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ } ، وكما يقال هذا ما لغيره أفضل منه . والوجه الاَخر : أن يجعل «ما » التي في «لما » بمعنى : «ما » التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : لَيُوَفّيَنّهُمْ هي أيضا اللام التي يجاب بها «إنّ » كرّرت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها ، كما قال الشاعر :
فَلَوْ أنّ قَوْمي لَمْ يَكُونُوا أعِزّةً *** لَبَعْدُ لَقَدْ لا قَيْتُ لا بُدّ مَصْرَعا
وقرأ ذلك الزهري ، فيما ذكر عنه : { وَإنّ كُلاّ } ، بتشديد إنّ ولَمّا بتنوينها ، بمعنى : شديدا وحقّا وجميعا .
وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ : «وإنّ » بتشديد نونها ، «كُلاّ لَمَا » بتخفيف ما { لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ } ، بمعنى : وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب ، فتكون «ما » بمعنى : «من » واللام التي فيها : جوابا لأن واللام في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام قسم .
وقوله : { إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، { خبير } ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.