التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد }

{ مَن يَشْرِي } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته ، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله - تعالى - وحافظ على فرائضه ، وجاهد في سبيله ، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته ، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة ، وكان هو بمنزلة البائع ، وكان قبول الله - تعالى - منه ذلك وإثابتهخ عليه في معنى الشراء .

وقوله : { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } الابتغاء الطلب الشديد للشيء ، والرغبة القوية في الحصول عليه ، وهو في الآية مفعول لأجله .

أي : ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلباً لرضوانه ، وأملا في مثوبته وغفرانه .

فهذالنوع التقي المخلص من الناس ، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه .

قال بعضهم : وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه . والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمناً لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإِخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين . ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه " .

وقال أحد العلماء : ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا . ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين المصدر الميمي وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما ، أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعاً قائماً متحققاً في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجرداً فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجرداً من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا . أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك { ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله } أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلباً موثقاً رضا الله - سبحانه - حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه - سبحانه - حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم " .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله - : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } أي ، رفيق رحيم بهم ، ومن مظاهر ذلك أنه لم يبكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين ، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى .

هذا ، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك لأنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له ، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية . فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع يا صهيب ، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما رآه : " ربح البيع ، ربح البيع " مرتين .

وهناك روايات أنها نزلت في وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .

والذي نراه - كما سبق أن بينا - أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله - تعالى - وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته ، ويدخل في ذلك دخولا أولياً من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .

وبذلك نرى أن الآيات قد بينت لنا نوعين من الناس : أحدهما خاسر ، والآخر رابح ، لكي نتبع طريق الرابحين ، ونهجر طريق الخاسرين ( وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير ) .