التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

لقد حكى القرآن أن موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ . . . . } .

قوله - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } شروع فى بيان مآل أحواله - عليه السلام - وفى بيان موقف قومه منه بعد أن بين - قبل ذلك بعض صفاته ومعجزاته وخصائص رسالته .

وأحس : بمعنى علم ووجد وعرف . والإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهى الذوق والشم واللمس والسمع والبصر . يقال أحس الشيء ، علمه بالحس . وأحس بالشيء شعر به بحاسته والمراد أن عيسى عليه السلام ، علم من بنى إسرائيل الكفر علما لا شبهة فيه .

والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف .

والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد جاء لقومه بالمعجزات الباهرات التى تشهد بصدقه فى دعوته ولكنه لم يجد منهم أذنا واعية ، فلما رأى تصميمهم على باطلهم ، وأحس منهم الكفر أى علمه يقينا وتحققه تحقق ما يدرك بالحواس ، قال على سبيل التبليغ وطلب النصرة : من أنصارى إلى الله ؟ أى من أعوانى في الدعوة إلى الله والتبشير بدينه حتى أبلغ ما كلفنى بتبليغه .

قال ابن كثير : وذلك كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مواسم الحج قبل أن يهاجر " هل من رجل يؤوينى وينصرنى حتى أبلغ كلام ربى فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى " فقيض الله له الأنصار فآووه ونصروه ومنعوه من الأسود والأحمر " .

والفاء في { فَلَمَّآ } تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة . أى أنهم بعد أن رأوا ما رأوا من معجزات عيسى لم يمتثلوا له ولم يتدبروا عاقبة أمرهم بل كذبوه على الفور ، وحاولوا قتله تخلصا منه واستمروا على كفرهم .

والتعبير بأحس - كما أشرنا من قبل - يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس .

والمقول لهم { مَنْ أنصاري إِلَى الله } هم الحواريون كما يشير إليه قوله - تعالى - في سورة الصف : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } وقيل المقول لهم جميع أفراد قومه .

وقوله { مِنْهُمُ } متعلق بأحس . ومن لابتداء الغاية أى ابتداء الإحساس من جهتهم . أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أى أحس الكفر حال كونه صادرا منهم . وقوله { إِلَى الله } متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في أنصارى . أى من أنصارى حال كونى ذاهبا إلى الله أى ملتجئا إليه وشارعا في نصرة دينه .

وفى قوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } حض لهم على المسارعة إلى نصرة الحق لأنهم لا ينصرونه من أجل متعة زائلة . وإنما هم ينصرونه لأنه يدافع عن دين الله ويبشر به ، ومن نصر دين الله ، نصره الله تعالى .

والآية الكريمة تشير إلى أن الكافرين كانوا هم الكثرة الكاثرة من بنى إسرائيل ، بدليل أنه - سبحانه - نسب الكفر إليهم فى قوله { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة ، والمؤمنون هم القلى غير الظاهرة حتى لكأن عيسى بقوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } يبحث عنهم من بين تلك الجموع الكثيرة من الكافرين . وهنا يحكى القرآن أن المؤمنين الصادقين - مع قلتهم - لم يتقاعسوا عن تلبية نداء عيسى - عليه السلام - فقال الله - تعالى - { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } والحواريون جمع حواري وهم أنصار عيسى الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق .

يقال فلان حواري فلان أى خاصه من أصحابه ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الزبير بن العوام : " لكل نبي حواري وحواريى الزبير " .

وأصل مادة " حور " هي شدة البياض . أو الخالص من البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق الحوارى . وقالوا في النساء البيض الحواريات والحوريات .

وقد سمى - تعالى - أصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا لله - تعالى نياتهم ، وطهرت سرائرهم من النفاق والغش فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض .

والمعنى أن عيسى عليه السلام - لما أحس الكفر من بنى إسرائيل قال لهم من أنصارى إلى الله ؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم لله - تعالى - : نحن أنصار الله الذين تبحث عنهم ، ونحن الذين سنقف إلى جانبك لنصرة الحق ، فقد آمنا بالله إيمانا عميقا ، ونريدك أن تشهد على إيماننا هذا ، وأن تشهد لنا يا عيسى بأنا مسلمون حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم .

فأنت ترى أن الحواريين لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى - عليه السلام - فى طلب النصرة دون أن يخشوا أحدا إلا الله .

وقولهم - كما حكى القرآن عنهم { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعا عن الحق الذى أنزله على رسوله عيسى .

وقولهم { آمَنَّا بالله } جملة فى معنى العلة للنصرة أى نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه هو الخالق لكل شىء والقادر على كل شيء .

وقولهم { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى - عليه السلام - أن يكون شاهدا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة .

وأقوالهم هذه التى حكاها القرآن عنهم تدل على أنهم كانوا في الدرجة العليا من قوة الإيمان وصدق اليقين ، ونقاء السريرة .