التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (176)

هذا ، وكما اشتملت سورة النساء فى مطلعها على الحديث عن أحكام الأسرة وأحكام الزواج والمواريث . فقد اختتمت بهذه الآية المتعلقة ببعض أحكام المواريث وهى قوله - تعالى - : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ } .

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 176 )

أورد المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : دخل على النبى صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل . فتوضأ فصب على أو قال : صبوا عليه . فعقلت فقلت : إنه لا يرثنى إلا كلالة . فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض . وفى بعض الألفاظ فأنزل الله آية الميراث { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } الآية . وفى رواية قال جابر : نزلت فى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } .

ويبدو أن عدداً من الصحابة قد سألوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن ميراث الكلالة فى أزمنة متفرقة فنزلت هذه الآية بآية الصيف ، لأنها نزلت فى هذا الوقت .

قال القرطى : " قال عمر : إنى والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة . وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لى فى شئ ما أغلظ لى فيها ، حتى طعن بإصبعه فى جنبى أو فى صدرى ثم قال : " يا عمر ، ألا تكفيك آية الصيف التى أنزلت فى آخر سورة النساء " " .

وقوله : { يَسْتَفْتُونَكَ } من الاستفتاء بمعنى طلب التفيا أو الفتوى . يقال : استفتيت العالم فى مسألة كذا . أى : سألته أن يبين حكمها . فالإِفتاء معناه : إظهار المشكل من الأحكام وتبينه .

والكلالة . . كما يقول الراغب - : اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة وروى " أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال : " من مات وليس له ولد ولا والد " ، فجعله اسما للميت . وقال ابن عباس : هو اسم لمن عدا الولد .

وقال ابن كثير ما ملخصه : وكان - رضى الله عنه - يقول : الكلالة من لا ولد له . وكان أبو بكر - رضى الله عنه - يقول : الكلالة ما عدا الولد والوالد .

ثم قال : وعن عمر أنه قال : إنى لأستحى أن أخالف أبا بكر . وهذا الذى قاله الصديق ، هو الذى عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة فى قديم الزمان وحديثه . وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذى يدل عليه القرآن .

وقد ذكرت كلمة الكلالة مرتين فى هذه السورة .

أما المرة الأولى ففى قوله - تعالى - . فى آيات المواريث : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } وقد بينا عند تفسيرنا لهذه الجملة الكريمة أن المراد بالإِخوة والأخوات فيها : الإِخوة لأم والأخوات لأم .

أما هنا فالأمر يختلف إذا المراد بالإِخوة والأخوات فى الآية التى معنا : الإِخوة والأخوات الأشقاء حكمه وأطيعوه ولا تخالفوه .

وقوله { فِي الكلالة } متعلق بقوله { يُفْتِيكُمْ } .

وقد تولى - سبحانه - الإِجابة مع أن المسئول هو النبى صلى الله عليه وسلم ، للتنويه بشأن الحكم المسئول عنه ، ولتأكيد أن المواريث من الأمور التى تكفل الله ببيانها وتوزيعها وحده ، فلا يصح لأحد أن يخالف ما شرعه الحكيم الخبير فى شأنها فهو - سبحانه - أعلم بمصالح عباده ، وأرحم بهم من آبائهم ومن أبنائهم ، ومن كل مخلوق .

وقوله : { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } كلام مستأنف مبين للاجابة عما سألوا عنه فى شأن ميراث الكلالة .

والمختار الذى عليه المحققون من العلماء أن الولد هنا عام يتناول الذكر والأنثى ، لأن الكلام فى الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا ولا ذكر ولا أنثى وليس له والد - أيضا إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر . ولأن الولد مشترك معنوى وقع نكرة فى سياق النفى فيعم الإِبن والبنت .

وقيل : المراد بالولد هنا الذكر خاصة لأنه المتبادر من معنى اللفظ .

والمراد بالأخت هنا - كما سبق أن أشرنا - الأخت الشقيقة أو الأخت لأب .

والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد عن توريث الكلالة فقل لهم : الله يفتيكم فى ذلك ، إذا مات إنسان ولم يترك أولاداً لا من الذكور ولا من الإِناث . ولم يترك كذلك والداً ، وترك أختا شقيقة أو من بين أبيه ، فلأخته فى تلك الحالة نصف ما تركه هذا الميت بالفرض ، والباقى للعصبة ، أولها بالرد إن لم يترك عصبة .

وإذا ماتت الأخت قبل أخيها ولم يكن لها ولد - ذكراً كان أو أنهى - ، ولم يكن لها كذلك والد ، فإن الأخ فى تلك الحالة يحرز جميع مالها .

وقوله : { امرؤ } مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده أى : إن هلك امرؤ وقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } فى محل رفع على أنه صفة لقوله { امرؤ } أى : هلك امرؤ غير ذى ولد ولا والد .

والفاء فى قوله { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } واقعة فى جواب الشرط .

وقوله { وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } جملة مستأنفة . سدت مسد جواب الشرط فى قوله : { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } .

قال الألوسى : والآية كما أنها لم تدل على سقوط الإِخوة بغير الولد ، فإنها لم تدل على عدم سقوطهم به . وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب . إذ صح عنه - صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى عصبة ذكر " ولا ريب فى أن الأب أولى من الأخ . وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة .

ثم بين - سبحانه - صورتين أخريين من صور الكلالة فقال : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } أى : فإن كانتا أى : الوارثتان بالأخوة اثنتين أو أكثر ، فلهما الثلثان مما ترك أخوهما المتوفى ، وإن كان الورثة لهذا الأخ المتوفى إخوة من الرجال والنساء ففى هذه الحالة تقسم تركته بينهم للذكر مثل حظ الانثيين .

وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد ذكرت صورا أربعا لميراث الإِخوة والأخوات للميت الذى لم يترك ولهذا ولا ولدا . أى الميت الكلالة .

1- أن يموت الميت وترثه أخت واحدة . ففى هذه الحالة يكون لها نصف تركته بالفرض والباقى للعصبة إن وجدوا ، فإن لم يوجدوا فلها الباقى بالرد .

2- أن يكون الأمر بالعكس بأن تموت امرأة ويرثها أخ واحد . فيكون له جميع تركتها .

3- أن يكون الميت أخا وأختا والوارث أختان فصاعدا ، ففى هذه الحالة يكون لهما أو لهن الثلثان .

4- أن يكون الميت أخا أو أختا ، والورثة عدد من الإخوة والأخوات ، ففى هذه الحالة تقسم التركة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين .

هذا ، وظاهر الآية يفيد أن لا فرق بين الإِخوة الأشقاء والإِخوة لأب فى أنهم يشتركون فى التركة إذا اجتمعوا ؛ ولكن هذا الظاهر غير مراد ، فقد خصصت السنة هذا العموم ، فقدمت الأشقاء على الإِخوة لأب . فإذا ما اجتمع الصنفان حجب الإِخوة الأشقاء الإِخوة لأب .

وقد تكلفت كتب الفروع ببسط الكلام عن هذه الأحكام وأمثالها . هذا ، وقوله - تعالى - { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذييل قصد به إظهار جانب من فضل الله - تعالى - على عباده ، وتحذيرهم من مخالفة شرعه وأمره .

أى : يبين الله لكم هذه الأحكام المتعلقة بالمواريث كما يبين لكم غيرها خشية أن تضلوا طريق الحق فى ذلك . بأن تعطوا من لا يستحق أو تهملوا من يستحق ، والله - تعالى - عليم بكل شئ لا تخفى عليه خافية من أحوالكم ، وسيحاسبكم على أعمالكم ، فيجازى المتبع لشرعة بالثواب العظيم ، ويجازى المخالف له بالعذاب الأليم .

والمفعول فى قوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } محذوف ، والمصدر المنسبك من أن والفعل مفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف أى : يبين الله لكم الحلال والحرام وجميع الأحكام خشية أن تضلوا .

ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول قوله { يُبَيِّنُ } أى : يبين الله لكم ضلالكم لتجتنبوه ، فإن الشر يعرف ليجتنب ، والخير يعرف ليفعل .

ويرى بعضهم أن الكلام على تقدير ( اللام ولا ) فى طرفى " أن " والمعنى : يبين الله لكم ذلك لئلا تضلوا .

ثم أما بعدك فهذا تفسير وسيط لسورة النساء .

تلك السورة التى نظمت المجتمع الإِسلامى تنظيما دقيقا حكيما .

نظمته فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية ، ونظمته فيما يتعلق بأوضاعه الخارجية . أما فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية ، فقد رأينا فيما سبق ، كيف ساقت الأحكام والآداب والتوجيهات التى تكون مجتمعا فاضلا ، يعرف الفرد فيه واجبة نحو خالقه ، وواجبه نحو نفسه ، وواجبه نحو غيره .

مجتمعا تقوم الأسرة فيه على دعائم ثابتة من الأمان والاطمئنان ، والمحبة والمودة والوئام .

مجتمعا رجاله يكرمون نساءه ، ويعطفون عليهن ، ويعاشروهن بالمعروف . ونساؤه يحترمن رجاله ، ويؤدين ما عليهن نحوهم من حقوق بأدب ، وعفة ، وإخلاص ، ووفاء .

مجتمعا حكامه يحكمون بالعدل ، ويراقبون الله فى أقوالهم وأعمالهم . المحكومون فيه يطيعيون حكامهم فيما يأمرونهم به من حق وخير .

مجتمعا يرى أفراده أن خيراته وأمواله . هى أمانة فى أعناقهم جميعا ، وأن ثمارها ومنافعها ستعود عليهم جميعا . لذا فهم يحرصون على استغلال ما يملكونه منها فيما يرضى الله ، وفيما يعود عليهم وعلى أمتهم الخير والصلاح والاستغناء والفلاح .

وأما فيما يتعلق بأواضعه الخارجية ، فقد رأينا - أيضا - فيما سبق ، كيف كشفت النقاب عن راذائل المنافقين . وعن العقائد الفاسدة التى يتشبث بها أهل الكتاب . وعن المسالك الخبيثة ، والوسائل المتعددة التى اتبعها هؤلاء جميعا لكيد الدعوة الإسلامية والإساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم .

كما رأينا كيف أنها حذرت المؤمنين من شرور أعدائهم ، وبصرتهم بما يجب عليهم نحوهم . وبما يجعلهم دائما على أتم استعداد لمقاومتهم ، ولتأديبهم ولرد كيدهم فى نحوهم .

ولقد ساقت السورة الكريمة من الآيات التى ترغب فى الجهاد فى سبل الله ، ما يجعل المؤمنين بقبلون عليه بقلوب منشرحة ، وبعزائم ثابتة ، وبأرواح غايتها الشهادة فى سبيل الله .

وباتباع المسلمين السابقين لهذا التوجيه الحكيم الذى اشتملت عليه هذه السورة الكريمة ، نالوا ما نالوا من مجد وسؤدد ، وظفروا بما ظفر به من عزة وسعادة ، وأصابوا ما أصابوا من خير وفلاح .

وأخيرا ، فإنى أحمد الله - تعالى - حمدا كثيرا على توفيقه لى لخدمة كتابه ، وأضرع إليه بإخلاص أن يعيننى على إتمام ما بدأته من خدمة كتابه ، إنه أعظم مسئول وأكرم مأمول .