فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

الآية المباركة المبدوءة بالقول الكريم { لا إله إلا هو } والمختتمة بقول ربنا عز وجل { وهو العلي العظيم } بينت أربعة عشر اسما للمولى جل ثناؤه وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم آية الكرسي وعلمنا أنها أعظم آي القرآن الكريم . ففي الصحيح عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ) قال قلت الله ورسوله أعلم . قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب في صدري وقال ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) . قال ابن عباس أشرف آية في القرآن آية الكرسي وقال بعض العلماء لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثمان عشرة مرة و{ الله } مبتدأ و{ لا إله } مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود و{ إلا هو } بدل من موضع لا إله وقيل { الله لا إله إلا هو } ابتداء وخبر وهو مرفوع محمول على المعنى أي : ما إله إلا هو وليس يعبد على الحقيقة ويستوجب العبادة غير الخالق البارئ الملك القدوس وهو خبر يقتضي النهي أي لا تعبدوا إلا الله و{ الحي }{[793]} اسم من أسماء ربنا الحسنى تقدست أسماؤه . [ وأما قوله { الحي } فإنه يعني الذي له الحياة الدائمة والبقاء الذي لا أول له يحد ولا آخر له يؤمد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها . . وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك فقال بعضهم إنما سمى الله نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها فهو حي بالتدبير لا بحياة وقال آخرون بل هو حي بحياة هي له صفة وقال آخرون بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به فقلناه تسليما لأمره ]{[794]}

{ القيوم } لا يفتقر في قوامه إلى غيره وغيره يفتقر في قوامه إليه . كما أنه القائم على كل نفس بما كسبت . عن مجاهد : القائم على كل شيء وعن الربيع : قيم كل شيء يكلؤه ويرزقه ويحفظه .

{ لا تأخذه سنة ولا نوم } لا يدركه نعاس ولا يعتريه نوم فهو منزه عن خفيف النوم وثقيله ، عن الضحاك السنة الوسنة وهو دون النوم ، والنوم الاستثقال . وقال ابن زيد الوسنان هو الذي يقوم من النوم لا يعقل ، وقال ابن جرير : لا تحله الآفات ولا تناله العاهات وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا : الله لا إله إلا هو{ الحي } الذي لا يموت { القيوم } على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال على حال . { لا تأخذه سنة{[795]} ولا نوم{[796]} } . . لو نام لكان مغلوبا مقهورا لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته والنوم شاغل المدبر عن التدبير والنعاس يمانع المقدر عن التقدير بوسنه . 1ه . { له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } لله الأحد علوي الكون وسفليه فهو خالق كل شيء وما لله شريك أو ند أو ضد ، فلا ينبغي أن نعبد غيره ولا يشفع عنده أحد لأحد إلا أن يمكنه الواحد القهار من الشفاعة لديه جل علاه ؛ والاستفهام في القول الكريم { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } يعني النفي أي لا أحد يشفع لديه إلا من شفعه سبحانه وفي هذا رد على الذين زعموا أن ما أشركوا بالله إنما يتخذ شفيعا لديه { . . . ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . . }{[797]} فأبطل المولى الحكيم زعمهم كما أن الآية المباركة قررت أن الكبير المتعال جل ثناؤه يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن شرفهم عز ثناؤه وأكرمهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، فمن حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم في صحيحه ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فينا أحد مما أمرتنا به فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فينا أحد ممن أمرتنا به يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خير ) وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما }{[798]}- ( فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما ){[799]} ؛ { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } قال مجاهد : { ما بين أيديهم } الدنيا { وما خلفهم } الآخرة . ولا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه . { وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم } نقل ابن جرير -رحمه الله تعالى- بسنده عن سعيد ابن جبير رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : { كرسيه } علمه . كما نقل أقوالا عدة ثم قال : وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس . . . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره : { ولا يؤوده حفظهما } على أن ذلك كذلك فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم { . . ربنا وسعت كل شيء وعلما . . . }{[800]} ، فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله { وسع كرسيه السموات والأرض } وأصل الكرسي العلم ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب : كراسة . . . ومنه يقال للعلماء كراسي . . يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض ومنه قول الشاعر :

يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب

وقيل : إنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما { وهو العلي } ذو العلو عن النظير والأشباه علي على خلقه ، { العظيم } المعظم الموصوف بالعظمة وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه{[801]} -هذا وقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فآتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) قال قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال : ( أما إنه قد كذبك وسيعود ) فعرفت أنه سيعود فرصدته فجاء يحثوا من الطعام فأخذته ، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال ( أما إنه كذبك وسيعود ) فرصدته الثالثة فجاء يحثوا من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ومن هي قال إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظا ولا يقربك الشيطان حتى تصبح فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما فعل أسيرك البارحة ) قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال وما هي قلت قال لي إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ) قلت لا قال ( ذاك الشيطان ) .


[793]:مما أورد صاحب روح المعاني في قوله تعالى {الحي} سبعة أوجه من وجوه الإعراب: الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة. الثاني يكون خبرا لمبتدأ محذوف. الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه {لا إله إلا هو}. الرابع أن يكون بدلا من {هو}. الخامس أن يكون مبتدأ خبره تأخذه، السادس أنه بدل من {الله}. السابع أنه صفة له والحياة عند الطبيعي قوة تقتضي الحس والحركة ويمتنع اتصاف الله تعالى بها فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتمه كنهها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه..
[794]:ما بين العلامتين [] من جامع البيان لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
[795]:في الصحيح عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه} أخرجه ابن كثير في تفسيره.
[796]:فسر بعضهم السنة بأنها: فتور يتقدم النوم وليس بنوم يقول عدي بن الرقاع: وسنان أقصده النعاس فرنفت في عينه سنة وليس بنائم
[797]:من سورة يونس من الآية 18.
[798]:من سورة النساء الآية 40.
[799]:أي فحما.
[800]:من سورة غافر من الآية 7.
[801]:ما بين العارضتين من روح المعاني.