{ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } تزوجتموهن { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } تجامعوهن { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر لأن المطلقة قبل الجماع لا عدة عليها { فمتعوهن } أعطوهن ما يستمتعن به وهذا أمر ندب لأن الواجب لها نصف الصداق { وسرحوهن سراحا جميلا } بالمعروف كما أمر الله تعالى
ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفات إلى أحد غيره ، وكان من المعلوم أنه لا بد في ذلك من محاولات ومنازعات ، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق ، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق ، أمر سبحانه بالتوكل عليه ، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له ، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل ، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهرة . فقال ناهياً لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين{[55785]} قاطعاً لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيها : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك { إذا نكحتم } أي عاقدتم ، أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية { المؤمنات } أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن .
ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطىء ، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطىء بالنكاح{[55786]} ، أشار إليه بحرف التراخي فقال : { ثم طلقتموهن } أي بحكم التوزيع ، وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال : زلة علم - وتلا هذه الآية .
ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقاً ، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطىء لا بإمكانه{[55787]} وإن حصلت الخلوة ، أدخل الجار فقال : { من قبل أن تسموهن } أي تجامعوهن ، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببه . ولما كانت العدة حقاً للرجال قال : { فما لكم } ولما كانت العدة واجبة ، عبر بأداة الاستعلاء فقال : { عليهن } وأكد النفي بإثبات الجار في قوله : { من عدة } ودل على اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال : { تعتدونها } أي تتكلفون عدها وتراعونه ، و{[55788]} روي عن ابن كثير{[55789]} من طريق البزي شاذاً بتخفيف{[55790]} الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المطلقة .
ولما كان هذا الحكم - الذي معناه الانفصال{[55791]} - للمؤمنات اللاتي لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال ، كان{[55792]} ذلك للكتابيات من باب الأولى ، وفائدة التقييد الإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات ، بل ولا عن الصالحات من المؤمنات . ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر{[55793]} عنها ، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك ، سبب عما مضى قوله : { فمتعوهن } ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها{[55794]} لتدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى{[55795]} كما دخلت الأولى وجوباً { وسرحوهن } أي أطلقوهن{[55796]} ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة { سراحاً جميلاً * } بالإحسان قولاً وفعلاً من غير ضرار بوجه أصلاً{[55797]} ليتزوجهن من شاء .
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } .
يستفاد من هذه الآية جملة أحكام منها : أن النكاح يطلق على العقد وحده ، وهو ما يفهم من ظاهر الآية { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } .
وقد اختلف العلماء في حد النكاح ، هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما معا ، على ثلاثة أقوال . فهو عند الحنفية ، وكذا الشافعية في قول لهم حقيقة في الوطء ، مجاز في العقد . وعند المالكية والشافعية في الأصح من مذهبيهما ، حقيقة في العقد ، مجاز في الوطء . وقيل : إنه حقيقة في العقد والوطء بالاشتراك ، كالعين ، فهي اسم مشترك بين أكثر من معنى{[3757]} .
ومنها : إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها ، ولا فرق في هذا الحكم بين المؤمنات والكافرات . وإنما ذكر هنا { المؤمنات } لخروجهن مخرج الغالب .
ومنها : أن الطلاق لا يقع من غير أن يسبقه نكاح ، لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فذكر الطلاق عقب النكاح مما يدل على أن الطلاق لا يقع ولا يصح قبل النكاح . وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم . وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وآخرين . وهو مذهب الشافعي وأحمد . وقال به آخرون من السلف والخلف ، خلافا لمالك وأبي حنيفة ؛ إذ قالا بصحة الطلاق قبل النكاح . فلو قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فقد ذهبا إلى أنها تطلق بمجرد زواجه منها . والراجح عدم وقوع الطلاق قبل النكاح ، لظاهر الآية . ولما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طلاق لابن آدم فيما يملك " وكذلك ما رواه ابن ماجة عن علي والمسور بن مخرمة ( رضي الله عنهما ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا طلاق قبل النكاح " .
قوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } إذا طُلقت المرأة قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها ولها أن تتزوج من تشاء من فورها . ولا يُستثنى من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها فإنها تعتد عدة الوفاة وهي أربعة أشهر ولو لم يكن دخل بها . وذلك كله بالإجماع .
قوله : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } إن طلقها قبل الدخول وكان قد سمى لها صداقا فلها نصف ما سمى من الصداق . وإن لم يكن سمى لها صداقا أعطاها المتعة على قدر يسره وعسره دون حرج في ذلك ولا حيف ، وذلك هو السراح الجميل في قوله : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } { وَسَرِّحُوهُنَّ } أي طلقوهن . والسراح أو التسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة ، وهو عند الشافعي طلاق صريح{[3758]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.