{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تقدموا خلاف الكتاب والسنة وقيل لا تذبحوا قبل أن يذبح النبى عليه السلام في الأضحى وقيل لا تصوموا قبل صومه نزلت في النهي عن صوم يوم الشك والمعنى لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يكون هو الذي يأمركم به { واتقوا الله } في مخالفة أمره { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأحوالكم
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال العلماء : كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس . فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب . وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي : " لا تَقَدَّموا " بفتح التاء والدال من التقدم . الباقون " تُقدِموا " بضم التاء وكسر الدال من التقديم . ومعناهما ظاهر ، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا . ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل .
الثانية- واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة : الأول : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد . وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . وقال عمر : ما أردت خلافك . فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضا .
الثاني : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزل : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " . ذكره المهدوي أيضا .
الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكَفَؤُوا{[14044]} إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى فقالوا : إن بيننا وبينك عهدا ، وقد قتل منا رجلان ، فوَدَاهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين . وقال قتادة : إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل فيّ كذا ؟ فنزلت هذه الآية . ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . مجاهد : لا تفْتَاتُوا{[14045]} على الله ورسول حتى يقضي الله على لسان رسوله ، ذكره البخاري أيضا .
الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي . قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم . قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين . إلا{[14046]} أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين . فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها . وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع . وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب . ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير . وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير . فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة . فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب .
الثالثة- قوله تعالى : " لا تقدموا بين يدي الله " أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف{[14047]} وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء ، فَمُرْ عمر فليصل بالناس . فقال صلى الله عليه وسلم : [ إنكن لأنتن صواحب يوسف{[14048]} . مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فمعنى قول [ صواحب يوسف ] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز . وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية . وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه . وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه . " واتقوا الله " يعني في التقدم المنهي عنه . " إن الله سميع " لقولكم " عليم " بفعلكم .
هذه السورة مدنية وعدد آياتها ثماني عشرة ، وهي - على قلة آياتها- جاءت زاخرة بمختلف المعاني في السلوك والآداب والأحكام والمواعظ ، وقد جاءت السورة مبدوءة بوجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومخاطبته في غاية التوقير والتعظيم .
وقد تضمنت السورة تنديدا بأولي الطبائع الغليظة من قساة الأعراب وأجلافهم الذين لم يوقروا النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كانوا ينادونه من وراء بيوته بأصوات مستهجنة لا أدب فيها ولا تواضع .
وفي السورة يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا لدى سماعهم أخبارا يحملها فاسقون ، فلا يبادروا التصديق واليقين لما سمعوه لاحتمال الكذب أو الخطأ ، ومن شأن ذلك أن يورث الزلل والندامة .
ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا بين إخوانهم المقتتلين بالعدل ، والمؤمنون في ميزان الإسلام أخوة على الدوام .
وفي السورة نهي عن جملة رذائل قد ندد بها الإسلام تنديدا ، وهي السخرية من الناس ، والتنابز بالألقاب ، وكذلك الكثير من الظن ثم التجسس والغيبة ، وهذه رذائل وصفات ذميمة تذهب بالحسنات وتورث السيئات والمباغضات وفساد ذات البين .
وفي السورة إعلان من الله ظاهر يرسخ فيه المساواة بين الناس وأنه ليس من تفاضل بينهم لسبب من الأسباب التي يعتبرها البشر ، وإنما التفاضل في ميزان الله ، بالتقوى دون غيره . إلى غير ذلك من الأحكام والمعاني .
{ ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم 1 يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون 2 إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم } .
هذه جملة آداب ، خليق بالمؤمنين أن يتأدبوا بها لدى تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل أو خطاب ، فيكون ذلك في غاية التكريم له والتوقير والتعظيم وهو قوله سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أو أمر من الأمور حتى يحكم الله على لسانه صلى الله عليه وسلم أو لا تبادروا القول أو الفعل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كونوا تبعا له في كل ذلك .
قوله : { واتقوا الله إن الله سميع عليم } أي اخشوا ربكم وافعلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه ، فإنه يسمع ما تقولون وتعلنون ويعلم ما تخفون وتكتمون .