اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (31)

ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله } فآتي منها ما تطلبون ، { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } فأخبركم بما تُريدُونَ .

وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم ، فأجابهم نوح - عليه الصلاة والسلام - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس ، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } هذا جواب لقولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } [ هود : 27 ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتَّواضع ، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين .

واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا ، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل . ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً } وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم ، ويحتقرونهم ، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً ، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً { الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله ، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة ؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به ، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي .

وقوله : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ } كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث . وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار ، وأنَّ الزمخشري قال : " إنَّ قوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } معطوفٌ على { عِندِي خَزَآئِنُ الله } أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله ، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ " .

قوله : " تَزْدَرِي " تفتعل من زَرَى يَزْرِي ، أي : حَقَرَ ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد ، ويقالك " زَرَيْتُ عَليْهِ " إذا عبته ، و " أزْرَيْتُ بِهِ " أي : قصَّرت به . وعائدُ الموصول محذوفٌ ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم ، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]

تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ *** وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ{[18762]}

وقال الشارع أيضاً : [ الوافر ]

يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ *** حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير{[18763]}

واللاَّمُ في " للَّذينَ " للتَّعليل ، أي : لأجْلِ الذين ، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس " لن يُؤتيكُم " بالخطاب .


[18762]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/219 واللسان (نحف) والدر المصون 4/95. ويروى عجزه: وتحت ثيابه رجل مرير *** ...
[18763]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/219 والقرطبي 9/20 والدر المصون 4/95.