اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ} (30)

قوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } الكاف في محل نصب كنظائرها .

قال الزمخشري : " مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني : إرسالا ً له شأن " .

وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي قبله في قوله : { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] ، أي كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك .

وقال ابن عطية : " الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك فعلنا أيضاً في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بأيآت مقترحة " .

وقال أبو البقاء : وكذلك : " الأمر كذلك " فجعلها في موضع رفع .

وقال الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب ، أي : كفعلنا الهداية والإضلال والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وتكون الكاف للتشبيه .

قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم أي : أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك .

وقيل : كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك [ أعطيناك ] هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم .

قوله : " قَد خَلتْ " جملة في محل جر صفة ل " أمَّة " ، و " لِتَتْلُ " متعلق ب " أرْسلْنَاك " والمعنى : أنه فسر كيف أرسله فقال : { في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ } أي : أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم وهم آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء " لتتلو " لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك وهو الكتاب العظيم .

قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية ، وأن تكون حالية والضمير في " وهم يكفُرون " عائد على " أمَّة " من حيث المعنى ، ولو عاد على لفظها لكان التركيب : وهي تكفر .

وقيل : الضمير عائد على " أمَّة " وعلى " أممٍ " . وقيل : عائد على الذين قالوا : " لوْلاَ أنْزِلَ " .

فصل

قال قتادة ومقاتل وابن جريح : الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهل بن عمرو لما جاءوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح ، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لعلي كرم الله وجهه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . قالوا لا نعرف إلى الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون : مسليمة الكذاب ، اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم فهذا معنى قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } والمعروف أن الآية مكية ، وسبب نزولها : أن أبا جهل سمع النبي س صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو الله يا رحمن فرجع إلى المشركين ، وقال : إن محمداً يدعو إلهين : يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن ، ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى :

{ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ]

وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم : " اسجدوا للرحمن " ، قالوا : وما الرحمن ؟ قال الله تعالى : " قل لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت " اعتمدت " وإليه متاب " أي : توبتي ومرجعي .

فصل

اعلم أن قوله { يَكْفُرُونَ بالرحمن } أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه : يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون : بل كفروا بالله إما جحداً له ، وإما لإثباتهم الشركاء معه . قال القاضي : وهذا القول أليق بالظاهر ؛ لأن قوله تعالى { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى .

قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم : أبو جهل بن هشام وعبدالله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام ، فقال عبدالله بن أمية المخزومي : إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو [ سخر لنا الريح ، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا ، ونرجع في يومنا ؛ فقد ] سخر ا لريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان ، أو أحْي لنا جدك قصي ، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك ، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ، فأنزل الله عز وجل { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } [ الرعد : 31 ] أي : شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } [ الرعد : 31 ] .