اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

قوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } " مَنْ " موصولة ، وصلتها " هُو قَائِمٌ " والموصول مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، ودل على هذا المحذوف ، قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } ونحوهن قوله { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] تقديره : كمن قسا قبله .

يدل عليه أيضاً { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } [ الزمر : 22 ] وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ ، وقد جاء مبيناً ، كقوله { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .

والمعنى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ، أي : حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت ، وجوابه محذوف ، تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه .

قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ } يجوز أن يكون استئنافاً ، وهو الظاهر ، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره .

وقال الزمخشري : " يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه : " وجَعَلُوا " وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه " جعلوا لهُ " وهو الله تعالى أي : وهو الذي يستحق العبادة " .

قال أبو حيان : " وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } أي : له ، وفيه حذف الخبر غير المقابل ، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً " .

وقيل : الواو للحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء ، فأقيم الظاهر وهو " اللهُ " مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها ، قاله صاحب العقد .

وقال ابن عطية : " ويظهر أن القول مرتبط بقوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } كان التقدير : أفمن له القدرة والوحدانية ، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ " .

وقيل : " وَجَعلُوا " عطف على " استُهْزِىءَ " بمعنى : وقد استهزؤوا وجعلوا .

وقال أبو البقاء : " هو معطوف على " كَسبَتْ " أي : ويجعلهم لله شركاء " ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال : " قُلْ سمُّوهُمْ " وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال : سمه إن شئت ، يعني أنه [ أخس ] من أن يسمى ويذكر ، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل ، وقيل : " سموهم " : أي : صفوهم ، ثم انظروا : هل هي أهلٌ أن تعبد ؟ على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ، ثم زاد في الحجاج .

قوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } " أمْ " هذه منقطعة مقدرة ب " بل " والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض و نحوه { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ يونس : 18 ] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : بما لا يعلمه الله ، وقد تقدم في تلك الآية : أن الفاعل ضمير يعود على " ما " وهو جائز هنا أيضاً .

قوله " أمْ بِظاهِرِ " أنها منقعطة . والظاهر هنا ، قيل : الباطن ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

3186 اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا *** وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ

أي : باطن .

وفسره مجاهد : بكذب ، وهو موافق لهذا .

وقيل : " أمْ " متصلة ، أي : تنبئونه بظاهر لا حقيقة له .

والمعنى : أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله ، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة ؛ لا ، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] .

ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم ، فقال على وجه التحقير لما هم عليه { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } .

قال الواحدي : " معنى " بَلْ " ههنا كأنه يقول : دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول : دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه ، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل " .

فصل

قالت المعتزلة : لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى ، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس أو شياطين الجن .

قال ابن الخطيب رحمه الله : وهذا التأويل ضعيف من وجوه :

الأول : أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل ، وإن كان هو الله فقد زال السؤال .

والثاني : أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .

والثالث : أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عز وجل وعند حصوله يجب الفعل .

قوله { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } قرأ الكوفيون ويعقوب " وصُدَّوا " مبنياً للمفعول ، وفي غافر { وَصُدَّ عَنِ السبيل } [ غافر : 37 ] كذلك ، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل ، و " صد : جاء لازماً ومتعدياً ، فقراءة الكوفية من التعدي فقط ، وقراءة الباقين : يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف ، أي : صدوا غيرهم أو أنفسهم ، وأن يكون من اللازم ، أي : أعرضوا وتولوا .

وقرأ ابن وثاب : " وصِدُّوا عَن السَّبيال " بكسر الصاد ، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى " قِيلَ " و " بِيعَ " فهو كقراءة : { رُدَّتْ إِلَيْنَا } [ يوسف : 65 ] . قوله : [ الطويل ]

3187 ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدم . فأما قراءة المبني للمعفول ، فعند أهل السنة : أن الله صدهم . المعتزلة وجهان :

قيل : الشيطان وبعضهم لبعض ، هو قول أبي مسلم رحمه الله . ومن فتح الصاد : يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً ، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً . وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول ، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ } [ محمد : 11 ] ثم مقال : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .

وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه : أحدها : قوله { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى . وثانيها : قوله { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } بضم الصاد ، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى .

وثالثها : قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ، وهو صريح في المقصود