إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ} (30)

{ كذلك } مثلَ ذلك الإرسالِ العظيمِ الشأن المصحوبِ بهذه المعجزة الباهرة { أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ } أي مضت { مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } كثيرة قد أُرسل إليهم رسل { لتَتْلُوَ } لتقرأ { عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من الكتاب العظيمِ الشأن وتهديَهم إلى الحق رحمةً لهم ، وتقديمُ المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [ الشرح ، الآية 2 ] وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرِدُ وحسنِ قولها عند ورودِه عليها { وَهُمْ } أي والحالة أنهم { يَكْفُرُونَ بالرحمان } بالبليغ الرحمةِ الذي وسعت كلَّ شيء رحمتُه وأحاطت به نعمتُه . والعدول إلى المُظهر المتعرِّض لوصف الرحمةِ من حيث أن الإرسالَ ناشىءٌ منها كما قال تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء ، الآية 107 ] فلم يقدِروا قدرَه ولم يشكروا نِعمَه لاسيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلِك إليهم وأنزل القرآنَ الذي هو مدارُ المنافع الدينية والدنيويةِ عليهم ، وقيل : نزلت في مشركي مكةَ حين أُمروا بالسجود فقالوا : وما الرحمان ؟

{ قُلْ هُوَ } أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته { رَبّى } الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيء إلى كمالِه شيئاً فشيئاً ثم وُصف به مبالغةً كالصوم والعدْل ، وقيل : هو نعت ، أي خالقي ومبلّغي إلى مراتب الكمالِ ، وإيرادُه قبل قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي لا مستحقَّ للعبادة سواه تنبيهٌ على أن استحقاقَ العباد منوطٌ بالربوبية ، وقيل : إن أبا جهل سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول : «يا ألله يا رحمن » فرجع إلى المشركين فقال : إن محمداً يدعو إلهين فنزلت ، ونزل قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمان } [ الإسراء ، الآية 110 ] الآية { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه { وَإِلَيْهِ } خاصة { مَتَابِ } أي توبتي كقوله تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } [ محمد ، الآية 19 وسورة غافر ، الآية 55 ] أُمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفةُ الأنبياء وبعثاً للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطفه فإنه عليه السلام حيث أُمر بها وهو منزّهٌ عن شائبة اقترافِ ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتُهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلاً وقد فُسّر المتابُ بمطلق الرجوعِ ، فقيل : مرجعي ومرجعُكم وزِيد : فيحكُم بيني وبينكم ، وقد قيل : فيثيبُني على مصابرتكم فتأمل .