اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

قوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ .

قال ابن عبَّاس رضي الله عهما : " إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عتليك بأنَّك من الصَّادقين ، فهذا عجبٌ " .

وقيل : إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا ، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدِّالة على التوحيد ، فهذا عجبٌ .

وقيل : تقدير الكلام : وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب ، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات ، والأرضيين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها ، وأنَّه الذي سخر الشَّمس ، والقمر على وفق مصالح العباد ، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب ، والغرائب ، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة ، كيف لا تكون وافية بأعادة الإنسان بعد موته ؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى ، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب .

قوله : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مقدم ، و " قَوْلُهمْ " مبتدأ مؤخَّرٌن ولا بد من حذف [ صفة ] لتتمْ الفائدة ، أي : فعجب أي عجب ، أو غريب ، ونحوه .

الثاني : أنه مبتدأ ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر ، ولا يضر حنيئذٍ كون خبره معرفة ، هذا كما أعرب سيبويه : كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما ، وخبرهما معرفةٌ ، قاله أبو حيَّان .

وللنزاع فيه مجال ؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا ، وهي : أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع " كَمْ " ، وخبر " مَا " هو مبتدأ ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه .

الثالث : أنَّ " عَجَبٌ " مبتدأ بمعنى معجب ، و " قَوْلُهمْ " فاعل به ، قاله أبو البقاء .

ورد عليه أبو حيَّان : بأنهم نصُّوا على أنَّ " فعلاً وفعَلة وفُعْلاً " ينوبُ عن " مَفْعُول " في المعنى ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : " مَرَرْتُ بِرجُل [ ذبح ] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء .

والعَجَبُ : تغير النَّفس برؤية المستبعد في العادة .

وقال القرطبيُّ : العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه .

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان :

أظهرهما : أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول .

والثاني : أنَّها ، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من : " قَوْلهِمْ " وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كُلِّ ؛ لأنَّ هذا هو نفس " قَوْلُهُم " ، و " إذَا " هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشَّرط ، والعاملُ فيها مقدر يفسره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديره : أئذا كُنَّا تراباً نبعث ، أو نحشر ، ولا يعمل فيها : { خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ لا ، ما بعد " إذَا " لا يعملُ فيما قبلها ، ولا يعمل فيها " كُنَّا " لأضافتها إليها .

واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً ، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها ، [ وبيان ] مراتب القرَّاء فيها ، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى .

فأولها : ما في هذه السورة .

والثاني ، والثالث : الإسراء وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] موضعان .

الرابع في المؤمنون : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] .

الخامس في النمل : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ النمل : 67 ] .

السادس في العنكبوت : { لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } [ العنكبوت : 28 ، 29 ] .

السابع في " الم " السجدة : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] .

الثامن ، والتاسع في الصافات موضعان [ الصافات : 16 ] .

العاشر : في الواقعة : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الواقعة : 47 ] .

الحادي عشر في النازعات : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ النازعات : 10 ، 11 ] .

فهذه هي المواضع الختلف فيها ، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان :

أحدهما : بالنِّسبةإلى ذكر القرَّاءِ .

والثاني : بالنسبة إلى ذكر السُّور .

فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين : قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد ، وقسم منها أربعة مواضع ، لكلِّ منها حكم على حدته .

أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة ، والثاني ، والثالث في : " سُبْحَانَ " والرابع : في " المؤمنون " ، والخامس : في " الم " السجدة ، والسادس ، والسابع : في الصافات وحكمها : " أنَّ نافعاً ، والكسائي يستفهمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، وأن ابن عامر يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، والباقين يستفهمون في الأول والثاني .

وأما القسم الثاني ، فأوله ما في سورة النمل ، وحكمه : أن نافعاً يخبر عن الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه ، وأن الباقين يستفهمون فيهما .

الثاني : ما في العنكبوت ، وحكمه : أن نافعاً ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفصاً يخبرون في الأول ، ويستفهمون في الثاني ، والباقون ، يستفهمون فيهما .

الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمه : أن نافعاً ، والكسائي يستهفمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، والباقون يستفهمون فيهما .

الرابع : ما في سورة النازعات ، وحكمه : أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ، وخبرون في الثاني ، والبقاين يستفهمون فيهما .

وأما الطريق الآخر بالنسبة إلى القراء ؛ فإنهم فيها على أربع مراتب :

الأول : أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه العكس .

المرتبة الثانية : أنَّ ابن كثير ، وحفصاًم قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر .

المرتبة الثالثة : أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل ، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل ، والواقعة ، والنازعات ، فقرأ في النمل ، والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما .

المرتبة الرابعة : الباقون وهم : أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر رضيه الله عنهم أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول ، والثاني ، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله .

قال شهاب الدين : " وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما ، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات .

فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل ، والثاني ؛ فقصد المبالغة في الإنكار ، فأتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، ووجه من أتى به مرة واحدة : حصول المقصود به ؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى ، فإذا أنكر في إحداها حصل الإنكارُ في الأخرى ، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك ، فلاتباع الأثر " .

فصل

هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه : أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم بابتداءِ الخلق ، فعجب أمرهم ، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وحقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء ، فهذا موضع العجب .

ثم قال : { أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى ؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة ، والعلم ، والصدق ، وأما إنكار القدرة فكقوله : الله غير قادر على الإعادة ، وأما إنكار العلم فكقوله : الله غير عالم بالجزيئات ، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم : إنَّه أخبر عنه ، ولكنه لا يفعل ؛ لأنَّ الكذب جائز عليه ، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى .

ثم قال : { وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } قال الأصمُّ : المراد بالأغلالِ : كفرهم وذلهم ، وانقيادهم للأصنام ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 80 ] ؛ وقال الشاعر : [ البسيط ]

3165 . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ

ويقال للرَّجلُ : هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء ، معناه : أنَّه [ ملازم ] لك ، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ .

قال القاضي : هذا وإن كان محتملاً ؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى .

قال ابن الخطيب : " أقول على نصرة الأصم ، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ ، وذلك غير حاصل ، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنًَّه سيحصل هذا المعنى ، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ من الحالِ ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه ، فلمَ كَانَ قولكم أقوى ؟ " .

وقيل : المعنى : أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، ويدلُّ عليه قوله تعالى :

{ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] إلى قوله : { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 72 ] .

ثم قال : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد ، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار ؛ لأن قولهم : { هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ .

فإن قيل : العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب ، وذلك في حق الله تعالى محالٌ ، فكيف قال : " فعجَبٌ قَولُهُمْ " ؟ .

فالجواب : المعنى : فعجب عنك .

فإن قيل : قرأ بعضهم : " بَل عَجِبْتُ " بإضافة العجب إلى نفسه .

فالجواب : أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادىْ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره ، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار .