قوله تعالى { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الآية : 2 ] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون ، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد ، والمعاد ، وهو هذه الآية .
قوله : " اللهُ " قال الزَّمخشريُّ : " اللهُ " مبتدأ ، و { الذي رَفَعَ السماوات } خبره بدليل قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } ويجوز أن يكون { الذي رَفَعَ السماوات } صفة ، وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } خبراً " .
وقوله : " بِغَيْرِ عمدٍ " هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من " السَّمواتِ " أي : رفعها خالية من عمدٍ ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : انتفاء العمدِ ، والرؤية جميعاً ، أي : لا عمد ؛ فلا رؤية ، يعني : لا عمد لها ؛ فلا ترى ، وإليه ذهب الجمهور .
والثاني : أنَّ لهما عمداً ، ولكنها غير مرئيَّة .
وعن ابن عبَّاسٍ : ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى ، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم : " مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً " ، ونحو : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ الطويل ]
3162 على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم هذا ، إذا قلنا : إنَّ " تَروْنَهَا " صفة أمَّا إذا قلنا : إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي ؛ فيتعيّن أن لا عمد لها .
والعامة على فتح العين ، والميم ، وهو اسم جمع ، وعبارة بعضهم : أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان :
أحدهما : أنَّه عماد مثل " إهَاب وأهُب " .
والثاني : أنه عمودٌ ، كأدِيم وأدُم ، وقَضِيتم وقُضُم ، كذا قاله أبو حيَّان : وقال أبو البقاءِ : " جمع عماد ، أو عمود مثل : إدِيم وأدُم ، وأفِيق وأفُق ، وإهَاب وأهُب ، ولا خامس لها " ، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك .
وفيه نظر ؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية ، فلا يلزمُ من جمع " فعيل " وعلى كذا أن يجمع عليه " فعول " ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن : " فَعُلاً " جمع على " فَعَل " ، ثم قول أبي البقاءِ " ولا خامس لها " يعني أنه لم يجمع على : " فُعُل " إلاَّ هذه الخمسة " عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ " .
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو : قَضِيمٌ وقُضُمٌ ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : " عُمُد " بضمتين ، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً ، كشِهَاب ، وشُهُب ، وكِتَاب ، وكُتُب ، وأ ، يكون عَمُوداً ، كرسُولٍ ، ورُسُل وقد قرىء في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمز : 9 ] بالوجهين .
وقال ابن عطية في " عَمَد : اسم جمع عمود ، والباب في جمعه " عُمُد " بضم الحروف الثلاثة ، كرسول ورُسُلٌ .
قال أبو حيان : " وهذا وهمٌ ، وصوابه : بضمِّ الحرفين ؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب ، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ " .
والعِمَادُ والعَمود : ما يعمدُ به ، أي : يسند ، ويقال : عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً ، أي : أدْعمتهُ ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ ، والعَمَدُ : الأساطينُ قال النابغة : [ البسيط ]
3163 وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ *** يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ
والعَمْدُ : قصد الشيء ، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو ، وعمودُ الصُّبْحِ : ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ ، والعُمْدَة : ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ : السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ ، أي : يَقْصدُونَهُ .
قوله " تَرَوْنَها " في الضَّمير المنصُوب وجهان :
أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على : " عَمَدٍ " ، وهو أقرب مذكورٍ ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل " عَمَدٍ " ، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى ، أو غير موجودة ألبتََّة .
والثاني : أنَّ الضَّمير عائد على " السَّمواتِ " ، ثمَّ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها لذلك ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من هاء : " تَرَوْنهَا " وتكون حالاً مقدرة ؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين ، والتقدير : رفعها مرئية لكم .
وقرأ أبي : " تَرَوْنهُ " بالتَّذكير مراعة للفظ " عَمَدٍ " إذ هو اسمُ جمع ، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل " عَمَدٍ " ، وزعم بعضهم أن " تَرَوْنَهَا " خبر لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي روها ، وانظروا إليها لتعتبروا بها ، وهو بعيد ؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً ، لأن الطَّلب لا يقع صفة ، ولا حالاً .
و " ثُمَّ " في " ثُمَّ اسْتَوَى " لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } علا عليه : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } لمنافع خلقه ، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ .
قال ابن عبَّاسٍ : للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى ، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً ، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } .
وتحقيقه : أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ ، والبُطءِ ، وإذا كان كذلك ؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك .
وقيل : المراد بقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] و { إِذَا السمآء انفطرت } [ الإنفطار : 1 ] { وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] كقوله تعالى : { ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان :
أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك .
والثاني : أنَّ الاولى حالٌ من فاعل " سخَّر " ، والثاني حالٌ من فاعل : " يُدبِّرُ " .
وقرأ النخعي ، وأبان بن تغلب : ( ندبر الأمر نفصل ) بالنون فيهما ، والحسن والأعمش : " نُفَصِّلُ " بالنون " يُدبِّرُ " بالياء .
قال المهدويُّ : لم يختلف في : " يُدبِّرُ " يعني أنَّه بالياء ، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي ، وأبان بن تغلب .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر } يقضيه وحده ، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل ، فهو يدبِّرهم بالإيجاد ، والإعدامِ والإحياءِ ، والإماتةِ ، والاعِتمادِ ، والانقيادِ ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة ؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى .
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته ، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن ، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير ، وذلك يدل على أنه في ذاته ، وصفاته ، وعلمه ، وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات .
قوله { يُفَصِّلُ الآيات } يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته ، وعلمه ، وحكمه .
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان :
أحدهما : الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ ، والشمس ، والقمر ، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره .
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموتُ بعد الحياة ، والفقرُ بد الغنى ، والهرم بعد الصحَّة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل في أشد الأحوال ، فهذا النَّوعُ من الموجودات ، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ .
فقوله : { يُفَصِّلُ الآيات } إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز ، والتفصيل .
ثم قال : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لكي توقنوا بوعده ، وتصدِّقوا .
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر ؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء ، وتدبيرها على عظمها ، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر ، والنشر أولى .
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة ؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة .
واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة ، والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ .
واعلم أنَّ لفظ " اللِّقاءِ " يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.