قوله : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق } الآية ، هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان ؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً ، يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ، ولا يتيسَّر له ذلك ، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ، ينفتح عليه أبواب الدنيا ، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله ، فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله ؛ لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال ، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً ، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام ؛ كما قال - تعالى- : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا } [ الزخرف : 32 ] ، وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال ، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق ، والصحة والسقم ، وغير ذلك .
قوله : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، فيه قولان :
الأول : أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى - ، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً ، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم . والحاصل : أن الرَّزاق ، هو : الله - تعالى - ، وأن المالك لا يرزق العبد ؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً ، وأقوى جسماً ، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى ؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله ؛ كما قال جل ذكره- : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
الثاني : أن المراد من الآية : الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ- ، وعلى هذا القول ففيه وجهان :
الأول : أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام ؛ كأنه قيل : إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه ، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك ، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية .
والثاني : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : " نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران ، حين قالوا : إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله " ، والمعنى : أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء ، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية ؟ .
قوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } ، في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أنَّها على حذف أداة الاستفهام ، تقديره : أفهم فيه سواء ، ومعناه النفي ، أي : ليسوا مستوين فيه .
الثاني : أنها إخبار بالتَّساوي ، بمعنى : أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم ، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم ، فهم فيه سواءٌ .
الثالث : قال أبو البقاء{[19972]} : إنَّها واقعة موقع الفعل ، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين :
أحدهما : أنه منصوب في جواب النَّفي ، تقديره : { فما الَّذين فضِّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم } ، فيستووا .
الثاني : أنه معطوفٌ على موضع : " بِرَادِّي " ، فيكون مرفوعاً ، تقديره : فما الذين فضِّلوا يردُّون ، فما يستوون .
قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، فيه وجهان :
أحدهما : لا شبهة في أن المراد من قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم .
الثاني{[19973]} : الباء في قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله } ، يجوز أن تكون زائدة ؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء ؛ كما تقول : خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام ، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر ، فعدي بالباء ؛ لكونه بمعنى : الكفر .
وقرأ عاصم{[19974]} في رواية أبي بكر : " تَجْحَدُونَ " ، بالخطاب ؛ لقوله : " بَعضَكُم " و " خَلقَكُمْ " ، والباقون بالغيبة ؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ- : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } وقوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لقرب المخبر عنه ، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة ، وهذا إنكار على المشركين .
فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام ؟ .
الأول : أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات ، هو : الله - تعالى- ، فالمثبت له شريكاً ، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات ، فكان جاحداً لكونها من عند الله ، وأيضاً : فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم ، يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله .
الثاني : قال الزجاج : إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل ، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند ذلك قال : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، في تقرير هذه البيانات ، وإيضاح هذه البينات " يَجْحدُونَ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.