اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (71)

قوله : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق } الآية ، هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان ؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً ، يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ، ولا يتيسَّر له ذلك ، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ، ينفتح عليه أبواب الدنيا ، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله ، فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله ؛ لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال ، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً ، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام ؛ كما قال - تعالى- : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا } [ الزخرف : 32 ] ، وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال ، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق ، والصحة والسقم ، وغير ذلك .

قوله : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، فيه قولان :

الأول : أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى - ، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً ، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم . والحاصل : أن الرَّزاق ، هو : الله - تعالى - ، وأن المالك لا يرزق العبد ؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً ، وأقوى جسماً ، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى ؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله ؛ كما قال جل ذكره- : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .

الثاني : أن المراد من الآية : الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ- ، وعلى هذا القول ففيه وجهان :

الأول : أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام ؛ كأنه قيل : إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه ، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك ، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية .

والثاني : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : " نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران ، حين قالوا : إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله " ، والمعنى : أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء ، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية ؟ .

قوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } ، في هذه الجملة أوجه :

أحدها : أنَّها على حذف أداة الاستفهام ، تقديره : أفهم فيه سواء ، ومعناه النفي ، أي : ليسوا مستوين فيه .

الثاني : أنها إخبار بالتَّساوي ، بمعنى : أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم ، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم ، فهم فيه سواءٌ .

الثالث : قال أبو البقاء{[19972]} : إنَّها واقعة موقع الفعل ، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين :

أحدهما : أنه منصوب في جواب النَّفي ، تقديره : { فما الَّذين فضِّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم } ، فيستووا .

الثاني : أنه معطوفٌ على موضع : " بِرَادِّي " ، فيكون مرفوعاً ، تقديره : فما الذين فضِّلوا يردُّون ، فما يستوون .

قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، فيه وجهان :

أحدهما : لا شبهة في أن المراد من قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم .

الثاني{[19973]} : الباء في قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله } ، يجوز أن تكون زائدة ؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء ؛ كما تقول : خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام ، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر ، فعدي بالباء ؛ لكونه بمعنى : الكفر .

وقرأ عاصم{[19974]} في رواية أبي بكر : " تَجْحَدُونَ " ، بالخطاب ؛ لقوله : " بَعضَكُم " و " خَلقَكُمْ " ، والباقون بالغيبة ؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ- : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } وقوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لقرب المخبر عنه ، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة ، وهذا إنكار على المشركين .

فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات ، هو : الله - تعالى- ، فالمثبت له شريكاً ، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات ، فكان جاحداً لكونها من عند الله ، وأيضاً : فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم ، يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله .

الثاني : قال الزجاج : إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل ، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند ذلك قال : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } ، في تقرير هذه البيانات ، وإيضاح هذه البينات " يَجْحدُونَ " .


[19972]:ينظر: الإملاء 2/84.
[19973]:سقط من: أ.
[19974]:ينظر: السبعة 374، والنشر 2/304، والإتحاف 2/186، والحجة 392، والبحر 5/499، والدر المصون 4/347.