ثم قال - تعالى - : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } " مِنْ " هنا للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات ؛ فهو كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 23 ] ، أو لابتداء الغاية .
قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل ، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار ، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين ، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان ، وذلك محسوس ، فالقسم الأول : هو الذي ألهم الله - تعالى - هذا النَّحل ، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها ، وتأكلها وتتغذى بها ، فإذا شبعت ، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء ، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل .
ومنهم من يقول : إنَّ النَّحل تأكل من الأزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء ، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلاً ، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى ؛ فذلك هو العسل .
والأول أقربُ ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذلك ههنا ، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل ؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها ، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل ، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار ؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء ، وإذا كان ذلك ، فقوله : " مِنْ كلِّ الثَّمراتِ " ، أن " مِنْ " هنا ؛ لابتداء الغاية لا للتبعيض .
قوله : { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ } ، أي : إذا أكلت من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك .
قوله تعالى : " ذُلُلاً " جمع ذَلُول ، ويجوز أن يكون حالاً من السبل ، أي : ذلَّلها لها الله - تعالى - ؛ كقوله - عز وجل - : { جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] وأن يكون حالاً من فاعل " اسْلُكِي " ، أي : مطيعة منقادة ، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت .
وانتصاب " سُبُل " يجوز أن يكون على الظرفية ، أي : فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا ، وأن يكون مفعولاً به ، أي : اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل .
قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، التفات وإخبار بذلك ، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره .
واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ ، فذلك هو العسل فظاهرٌ ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه ، فالمراد من قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، أي : من أفواهها ، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، كقولهم : بُطونُ الدِّماغِ ، أي : تجاويف الدماغ ، فكذا قوله - تعالى - { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } أي : من أفواهها .
قوله : { شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أنَّه تارة يشرب وحده ، وتارة نتَّخذ منه الأشربة ، و { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أبيض وأحمر وأصفر .
وقوله - تعالى- : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : في العسل .
روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِه عَسَلاً ، فَسَقاهُ ، ثمَّ جَاءَ فقال : إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْقِه عَسَلاً ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اسقه عسلا ، فقال : قد سَقَيْتُهُ فَلَمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطْلاقاً ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ أخيك ، فَسقاهُ فَبَرأ " {[19965]} .
وقال عبد الله بن مسعود : " العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ " {[19966]} . فإن قيل : كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار ؟ . فالجواب : أنه - تعالى - لم يقل : إنه شفاءٌ لكلِّ الناس ، وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال ، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء ، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة : أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع .
وقال مجاهد - رحمه الله- : المراد بقوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } القرآن{[19967]} ؛ لقوله - تعالى - : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : " عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ : العَسلِ والقُرآنِ{[19968]} " . وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، ثم ابتدأ وقال : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } أي : في هذا القرآن . وهذا القول ضعيف ؛ لما تقدم من الحديث ؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور ، وهو الشَّراب ، وأما عوده إلى غير مذكور ، فلا يناسب . فإن قيل : ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ " ؟ . فالجواب : لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة و السلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب ، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ . ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، أي : ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة ؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها ، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.