اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

ثم قال - تعالى - : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } " مِنْ " هنا للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات ؛ فهو كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 23 ] ، أو لابتداء الغاية .

قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل ، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار ، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين ، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان ، وذلك محسوس ، فالقسم الأول : هو الذي ألهم الله - تعالى - هذا النَّحل ، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها ، وتأكلها وتتغذى بها ، فإذا شبعت ، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء ، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل .

ومنهم من يقول : إنَّ النَّحل تأكل من الأزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء ، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلاً ، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى ؛ فذلك هو العسل .

والأول أقربُ ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذلك ههنا ، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل ؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها ، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل ، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار ؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء ، وإذا كان ذلك ، فقوله : " مِنْ كلِّ الثَّمراتِ " ، أن " مِنْ " هنا ؛ لابتداء الغاية لا للتبعيض .

قوله : { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ } ، أي : إذا أكلت من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك .

قوله تعالى : " ذُلُلاً " جمع ذَلُول ، ويجوز أن يكون حالاً من السبل ، أي : ذلَّلها لها الله - تعالى - ؛ كقوله - عز وجل - : { جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] وأن يكون حالاً من فاعل " اسْلُكِي " ، أي : مطيعة منقادة ، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت .

وانتصاب " سُبُل " يجوز أن يكون على الظرفية ، أي : فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا ، وأن يكون مفعولاً به ، أي : اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل .

قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، التفات وإخبار بذلك ، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره .

واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ ، فذلك هو العسل فظاهرٌ ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه ، فالمراد من قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، أي : من أفواهها ، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، كقولهم : بُطونُ الدِّماغِ ، أي : تجاويف الدماغ ، فكذا قوله - تعالى - { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } أي : من أفواهها .

قوله : { شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أنَّه تارة يشرب وحده ، وتارة نتَّخذ منه الأشربة ، و { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أبيض وأحمر وأصفر .

وقوله - تعالى- : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : في العسل .

روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِه عَسَلاً ، فَسَقاهُ ، ثمَّ جَاءَ فقال : إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْقِه عَسَلاً ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اسقه عسلا ، فقال : قد سَقَيْتُهُ فَلَمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطْلاقاً ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ أخيك ، فَسقاهُ فَبَرأ " {[19965]} .

وقال عبد الله بن مسعود : " العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ " {[19966]} . فإن قيل : كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار ؟ . فالجواب : أنه - تعالى - لم يقل : إنه شفاءٌ لكلِّ الناس ، وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال ، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء ، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة : أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع .

وقال مجاهد - رحمه الله- : المراد بقوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } القرآن{[19967]} ؛ لقوله - تعالى - : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : " عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ : العَسلِ والقُرآنِ{[19968]} " . وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، ثم ابتدأ وقال : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } أي : في هذا القرآن . وهذا القول ضعيف ؛ لما تقدم من الحديث ؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور ، وهو الشَّراب ، وأما عوده إلى غير مذكور ، فلا يناسب . فإن قيل : ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ " ؟ . فالجواب : لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة و السلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب ، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ . ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، أي : ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة ؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها ، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة .


[19965]:أخرجه البخاري (10/139) كتاب الطب: باب الدواء بالعسل (5684) ومسلم (4/1736) كتاب السلام: باب التداوي بسقي العسل حديث (91/2217) وأحمد (3/19،92) والبغوي في "شرح السنة" (6/249) والبيهقي (9/344) من طريق قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري.
[19966]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/614) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/230) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
[19967]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/614) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/230.) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.
[19968]:أخرجه ابن ماجه (2/1142) رقم (3452) والحاكم (4/200) والخطيب (11/385) من طريق زيد بن الحباب عن سفيان عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال البوصيري في "الزوائد" (3/120): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (9/344) وقال: رفعه غير معروف والصحيح موقوف ورواه وكيع عن سفيان موقوفا. والموقوف أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/614) والحاكم (4/403) والبيهقي (9/345) وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" (4/230).