قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل } ، فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوف ، فقدَّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب ، أي : من عصيرها ؛ وحذف لدلالة " نُسْقِيكُمْ " ، قبله عليه قال : " وتتَّخِذون : بيان وكشف عن كيفية الإسقاء " .
وقدَّره أبو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم . وما قدَّره الزمخشري أليقُ .
لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم ، بل قوله : " ومِنْ ثَمراتِ " ، عطف على قوله : " ممَّا في بُطونهِ " ، فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض ؛ كما تقول : سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك : من العسل .
لا يقال ذلك ؛ لأن " نُسْقِيكُمْ " الملفوظ به ، وقع تفسير ل " عِبْرَة " الأنعام ، فلا يليق تعلُّق هذا به ؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام .
قال أبو حيان{[19951]} : وقيل : متعلق ب " نُسْقِيكُمْ " ، فيكون معطوفاً على " ممَّا في بُطونه " " أو : ب " نسقيكم " ، محذوفة دلَّ عليها : " نُسْقِيكُمْ " انتهى .
ولم يعقبه تنكير ، وفيه ما تقدَّم .
الثاني : أنه متعلق ب " تتَّخذُونَ " ، و " مِنْهُ " تكرير للظرف توكيداً ؛ نحو : زيْدٌ في الدَّار فيها ، قاله الزمخشري{[19952]} - رحمه الله تعالى - وعلى هذا ، فالهاء في : " مِنْهُ " ، فيها ستَّة أوجه :
أحدها : أنها تعود على المضاف المحذوف ، الذي هو : العصير ؛ كما رجع في قوله تعالى :{ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، إلى الأهل المحذوف .
الثاني : أنها تعود على معنى الثمرات ؛ لأنها بمعنى : الثَّمر .
الثالث : أنها تعود على النَّخيل .
الرابع : أنها تعود على الجنس .
الخامس : أنها تعود على البعض .
السادس : أنها تعود على المذكور .
الوجه الثالث من الأوجه الأول : أنه معطوف على قوله : " فِي الأنعَام " ، فيكون في المعنى خبراً عن اسم " إنَّ " في قوله - عز وجل- : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } ، التقدير : وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة ، ويكون قوله : " تَتَّخِذُون " ، بياناً وتفسيراً للعبرة ، كما وقع : " نُسْقِيكُمْ " ، تفسيراً لها أيضاً .
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، فقدَّره الطبري : ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون .
قال أبو حيان{[19953]} : " وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين " .
قال شهاب الدين{[19954]} : وفيه نظر ؛ لأنَّ له أن يقول : ليست " ما " هذه ، موصولة ، بل نكرة موصوفة ، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة ؛ لأنَّ في الكلام " مِنْ " ، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطرد الحذف ، نحو : " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ " ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى - : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلاَّ من له مقام معلوم ، قال : فحذفت : " مَنْ " ، لدلالة " مِنْ " عليها في قوله : " ومَا منَّا إلاَّ لهُ " .
ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف ، قدره : " ثمر تتَّخذون منه " ؛ ونظَّره بقول الشاعر : [ الرجز ]
يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ{[19955]} *** تقديره : بكفَّي رجلٍ ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ ؛ لعدم " مِنْ " .
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه ؛ قال : " وقيل : هو صفة لمحذوفٍ تقديره : شيئاً تتخذون منه بالنصب ، أي : وإن من ثمرات النَّخيل ، وإن شئت " شيءٌ " ، - بالرفع - على الابتداء ، و " مِنْ ثمراتِ " ، خبره " .
قال الواحدي : " و " الأعْنابِ " عطف على الثَّمرات ، لا على " النَّخيل " ؛ لأنَّه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة ، وليس له ثمرة أخرى " .
والسَّكرُ : بفتحتين فيه أقوال :
أحدها : أنه من أسماء الخمر ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم *** إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ{[19956]}
الثاني : أنه في الأصل مصدر ، ثم سمِّي به الخمر ، يقال : سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ؛ نحو : رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا *** فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي{[19957]}
الثالث : أنه اسم للخلِّ ، بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عبَّاس .
الرابع : أنه اسم للعصير ، ما دام حلواً ؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمى له لذلك لو ترك .
الخامس : أنه اسم للطعم ، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد : [ الرجز }
جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا{[19958]} *** أي : تنقلتُ بأعراضهم .
وقيل في البيت بأنه من الخمر ، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس ، كان يخمر بها .
وقال الضحاك ، والنَّخعي ، ومن يبيحُ شرب النبيذ : السَّكر ، هو : النبيذ ؛ وهو : نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ ، والمطبوخ من العصير{[19959]} .
ومن حرَّمه ، يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال .
قوله : { وَرِزْقًا حَسَنًا } ، يجوز أن يكون من عطف المتغايرات ، وهو الظاهر ؛ كما قال المفسرون : إنه كالزَّبيب ، والخلِّ ، والدِّبس ، ونحو ذلك ، وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ ، أي : تتَّخذون منه ، ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن ؛ كقوله : [ المتقارب ]
3343 *** - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام{[19960]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فصل
ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد إلى أن السَّكر : الخمر ، والرزق الحسن : الخلُّ ، والربُّ ، والتَّمر ، والزَّبيب{[19961]} .
قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة .
قال بعضهم : ولا حاجة إلى التزام النَّسخ ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ؛ لأنها من أشربتهم ، فهي منفعة في حقِّهم .
ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها ؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً ؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة ، فوجب أن يقال : بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة ، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة .
ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه ، الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه ، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر ، - قال - جل ذكره- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، أي : من كان عاقلاً ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى - ، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.