اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرٗا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (67)

قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل } ، فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلق بمحذوف ، فقدَّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب ، أي : من عصيرها ؛ وحذف لدلالة " نُسْقِيكُمْ " ، قبله عليه قال : " وتتَّخِذون : بيان وكشف عن كيفية الإسقاء " .

وقدَّره أبو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم . وما قدَّره الزمخشري أليقُ .

لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم ، بل قوله : " ومِنْ ثَمراتِ " ، عطف على قوله : " ممَّا في بُطونهِ " ، فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض ؛ كما تقول : سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك : من العسل .

لا يقال ذلك ؛ لأن " نُسْقِيكُمْ " الملفوظ به ، وقع تفسير ل " عِبْرَة " الأنعام ، فلا يليق تعلُّق هذا به ؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام .

قال أبو حيان{[19951]} : وقيل : متعلق ب " نُسْقِيكُمْ " ، فيكون معطوفاً على " ممَّا في بُطونه " " أو : ب " نسقيكم " ، محذوفة دلَّ عليها : " نُسْقِيكُمْ " انتهى .

ولم يعقبه تنكير ، وفيه ما تقدَّم .

الثاني : أنه متعلق ب " تتَّخذُونَ " ، و " مِنْهُ " تكرير للظرف توكيداً ؛ نحو : زيْدٌ في الدَّار فيها ، قاله الزمخشري{[19952]} - رحمه الله تعالى - وعلى هذا ، فالهاء في : " مِنْهُ " ، فيها ستَّة أوجه :

أحدها : أنها تعود على المضاف المحذوف ، الذي هو : العصير ؛ كما رجع في قوله تعالى :{ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، إلى الأهل المحذوف .

الثاني : أنها تعود على معنى الثمرات ؛ لأنها بمعنى : الثَّمر .

الثالث : أنها تعود على النَّخيل .

الرابع : أنها تعود على الجنس .

الخامس : أنها تعود على البعض .

السادس : أنها تعود على المذكور .

الوجه الثالث من الأوجه الأول : أنه معطوف على قوله : " فِي الأنعَام " ، فيكون في المعنى خبراً عن اسم " إنَّ " في قوله - عز وجل- : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } ، التقدير : وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة ، ويكون قوله : " تَتَّخِذُون " ، بياناً وتفسيراً للعبرة ، كما وقع : " نُسْقِيكُمْ " ، تفسيراً لها أيضاً .

الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، فقدَّره الطبري : ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون .

قال أبو حيان{[19953]} : " وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين " .

قال شهاب الدين{[19954]} : وفيه نظر ؛ لأنَّ له أن يقول : ليست " ما " هذه ، موصولة ، بل نكرة موصوفة ، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة ؛ لأنَّ في الكلام " مِنْ " ، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطرد الحذف ، نحو : " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ " ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى - : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلاَّ من له مقام معلوم ، قال : فحذفت : " مَنْ " ، لدلالة " مِنْ " عليها في قوله : " ومَا منَّا إلاَّ لهُ " .

ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف ، قدره : " ثمر تتَّخذون منه " ؛ ونظَّره بقول الشاعر : [ الرجز ]

يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ{[19955]} *** تقديره : بكفَّي رجلٍ ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ ؛ لعدم " مِنْ " .

ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه ؛ قال : " وقيل : هو صفة لمحذوفٍ تقديره : شيئاً تتخذون منه بالنصب ، أي : وإن من ثمرات النَّخيل ، وإن شئت " شيءٌ " ، - بالرفع - على الابتداء ، و " مِنْ ثمراتِ " ، خبره " .

قال الواحدي : " و " الأعْنابِ " عطف على الثَّمرات ، لا على " النَّخيل " ؛ لأنَّه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة ، وليس له ثمرة أخرى " .

والسَّكرُ : بفتحتين فيه أقوال :

أحدها : أنه من أسماء الخمر ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]

بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم *** إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ{[19956]}

الثاني : أنه في الأصل مصدر ، ثم سمِّي به الخمر ، يقال : سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ؛ نحو : رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]

وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا *** فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي{[19957]}

قاله الزمخشري .

الثالث : أنه اسم للخلِّ ، بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عبَّاس .

الرابع : أنه اسم للعصير ، ما دام حلواً ؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمى له لذلك لو ترك .

الخامس : أنه اسم للطعم ، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد : [ الرجز }

جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا{[19958]} *** أي : تنقلتُ بأعراضهم .

وقيل في البيت بأنه من الخمر ، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس ، كان يخمر بها .

وقال الضحاك ، والنَّخعي ، ومن يبيحُ شرب النبيذ : السَّكر ، هو : النبيذ ؛ وهو : نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ ، والمطبوخ من العصير{[19959]} .

ومن حرَّمه ، يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال .

قوله : { وَرِزْقًا حَسَنًا } ، يجوز أن يكون من عطف المتغايرات ، وهو الظاهر ؛ كما قال المفسرون : إنه كالزَّبيب ، والخلِّ ، والدِّبس ، ونحو ذلك ، وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ ، أي : تتَّخذون منه ، ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن ؛ كقوله : [ المتقارب ]

3343 *** - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام{[19960]}

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فصل

ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد إلى أن السَّكر : الخمر ، والرزق الحسن : الخلُّ ، والربُّ ، والتَّمر ، والزَّبيب{[19961]} .

قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة .

قال بعضهم : ولا حاجة إلى التزام النَّسخ ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ؛ لأنها من أشربتهم ، فهي منفعة في حقِّهم .

ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها ؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً ؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة ، فوجب أن يقال : بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة ، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة .

ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه ، الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه ، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر ، - قال - جل ذكره- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، أي : من كان عاقلاً ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى - ، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم .


[19951]:ينظر: البحر المحيط 5/494.
[19952]:ينظر: الكشاف 2/616.
[19953]:ينظر: البحر المحيط 5/494.
[19954]:ينظر: الدر المصون 4/344.
[19955]:تقدم.
[19956]:البيت للأخطل. ينظر: ديوانه 110، القرطبي 10/85، تفسير الماوردي 2/398، التهذيب 13/176، روح المعاني 14/179، اللسان والتاج والصحاح (سكر)، الأغاني 10/4، البحر المحيط 5/495، الدر المصون 4/345.
[19957]:البيت لغني بن مالك العقيلي. ينظر: اللسان (سكر)، شواهد الكشاف 4/417، البحر المحيط 5/485، الألوسي 14/179، الدر المصون 4/345.
[19958]:وروي البيت: جعلت عيب الأكرمين سكرا. والبيت لجندل بن المثنى الطهوي. ينظر: مجاز القرآن 1/363، اللسان (سكر)، زادة 3/187، البيضاوي 3/187، إعراب القرآن للزجاج 3/209، الخازن 4/100، التاج (سكر)، البحر المحيط 5/495، الكشاف 2/417، الطبري 14/84، القرطبي 10/85، الدر المصون 4/345.
[19959]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/611) عن مجاهد والشعبي.
[19960]:تقدم.
[19961]:ينظر: تفسير البغوي (3/75).