اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ} (72)

قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } الآية ، هذا نوع آخر من أحوال الناس ، استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم ، وهذا الخطاب للكلِّ ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل ، والمعنى : أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور ، ومعنى : " مِنْ أنْفُسِكُمْ " ، كقوله - تعالى- : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، وقوله : { فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أي : بعضكم بعضاً ؛ ونظيره : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الروم : 21 ] .

قال الأطباء وأهل الطبيعة : المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر ، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان الولدُ ذكراً تامًّا ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة ، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى ، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور .

وحاصل كلامهم : أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة ، وهذه العلَّة ضعيفة ، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة ، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة ، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك ، لامتنع ذلك ؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم .

قوله : " وَحفَدةً " ، فيه أوجه :

أظهرها : أنه معطوف على " بَنِينَ " ، بقيد كونه من الأزواج ، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد .

الثاني : أنه من عطف الصفات لشيء واحد ، أي : جعل لكم بنين خدماً ، والحفدة : الخدم .

الثالث : أنه منصوب ب " جَعَلَ " مقدَّرة ، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار ، وإنما احتيج إلى تقدير " جَعَلَ " ؛ لأن " جَعَلَ " الأولى مقيَّدة بالأزواج ، والأعوانُ ، والأصهارُ ليسوا من الأزواج ، والحفدة : جمع حافدٍ ؛ كخادمٍ وخَدم .

قال الواحدي - رحمه الله- : " ويقال في جمعه : الحفد بغير هاءٍ ؛ كما يقال : الرَّصد ، ومعنى الحفدة في اللغة : الأعوان والخدم " .

وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة ، واشتقاقهم من قولهم : حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً ، أي : أسرع في الطَّاعة ، وفي الحديث : " وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ " ، أي : نُسرع في طَاعتِكَ ؛ وقال الآخر : [ الكامل ]

حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ *** بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ{[19975]}

ويستعمل " حَفَدَ " أيضاً متعدياً ؛ يقال : حَفدنِي فهو حافدٌ ؛ وأنشد أيضاً : [ الرمل ]

يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ *** كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ{[19976]}

وحكى أبو عبيدة أنه يقال : أحفد رباعيًّا ، وقال بعضهم : الحَفدةُ الأصهارُ ؛ وأنشد : [ الطويل ]

فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ *** لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ

ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ *** عَيُوفٌ لأصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ{[19977]}

ويقال : سَيفٌ مُحْتَفِدٌ ، أي : سريعُ القطع ؛ وقال الأصمعي : أصل الحفد مقاربة الخُطَى .

قوله : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات } ، ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح ، وما فيه من المنافع والمصالح ، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية ، و " مِنْ " ، في " مِنَ الطَّيباتِ " ، للتبعيض .

ثم قال { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - يعني : بالأصنام وقال مقاتل : يعني : بالشيطان ، وقال عطاء : يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً .

{ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ } ، أي : بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله ، وقيل : يكفرون بالتَّوحيد والإسلام .

وقيل : يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم ؛ مثل : البَحيرَة ، والسَّائبةِ ، والوَصِيلَة ، والحَامِ ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم ، وهي : الميتة ولحم الخنزير ، { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] ، أي : يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث ، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة .


[19975]:البيت لجميل بن عبد الله الحارثي العذري ونسب إلى الفرزدق وليس في ديوانه. ينظر: الجمهرة 2/1123، معاني الأخفش 1/464، الكشاف 2/419، اللسان والتاج (حفد) الدر اللقيط 5/514، مجاز القرآن 1/364، الطبري 14/144، البحر المحيط 5/484، الدر المنثور 4/124، القرطبي 10/941، الدر المصون 4/347.
[19976]:البيت لطرفة وليس في ديوانه. ينظر: تفسير الماوردي 2/402، البحر المحيط 5/484، الألوسي 14/190، الدر المصون 4/348.
[19977]:البيت لجميل وليس في ديوانه. ينظر: اللسان (حفد)، البحر المحيط 5/484، الألوسي 14/190، فتح القدير 3/178، الدر المصون 4/347.