ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد ، فقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، أي : من بعد إبرامه وإحكامه .
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى - : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم ، وتلقب ب " جعراء " ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنَّارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواريها ، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار ، فإذا انتصف النَّهار ، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن ، فكان هذا دأبها{[20041]} .
والمعنى : أنَّها لم تكفَّ عن العمل ، ولا حين عملت كفَّت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد ، ولا حين [ عهدتم ]{[20042]} وفيتم به .
وقيل : المراد بالمثل : الوصف دون التَّعيين ؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً ، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً ، وذلك يتم دون التَّعيين .
قوله تعالى : " أنكاثاً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه حال من " غَزلِهَا " ، والأنْكَاثُ : جمع نِكْث بمعنى منكُوث ، أي : منقوض .
والثاني : أنه مفعول ثان لتضمين " نَقضَتْ " معنى صيَّرت ؛ كما تقول : فرقته أجزاء .
وجوَّز الزجاج{[20043]} فيه وجهاً ثالثاً ، وهو النصب على المصدرية ؛ لأنَّ معنى نكثت : نقضت ، ومعنى نقضت : نكثت ؛ فهو ملاق لعامله في المعنى .
قيل : وهذا غلط منه ؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث ، وهو اسمٌ لا مصدر ، فكيف يكون قوله : " أنْكَاثاً " بمعنى المصدر ؟ .
والأنْكَاث : الأنقاض ، واحدها نِكْث ؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً .
قال ابن قتيبة : هذه الآية متَّصلة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، فإنَّكم إن فعلتم ذلك ، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ، فلما استحكم ، نقضته فجعلته أنكاثاً .
قوله تعالى : { تَتَّخِذُونَ } ، يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو " تكونوا " ، أو من الضمير المستتر في الجارِّ ؛ إذ المعنى : تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
قوله : " دَخَلاً بَيْنكُمْ " ، هو المفعول الثاني ل " تَتَّخِذُونَ " ، والدَّخلُ : الفساد والدَّغل .
وقيل : " دَخَلاً " ، مفعول من أجله ، وقيل : الدَّخل : الدَّاخل في الشيء ليس منه .
قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : " الدَّخلُ والدَّغلُ : الغِشُّ والخِيانةُ " .
وقيل : الدَّخل : ما أدخل في الشيء على فسادٍ ، وقيل : الدَّخل والدَّغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض .
وقوله تعالى : " أنْ تَكُونَ " ، أي : بسبب أن تكون ، أو مخافة أن تكون ، و " تكون " يجوز أن تكون تامة ؛ فتكون " أمَّةٌ " فاعلها ، وأن تَكُونَ ناقصة ، فتكون : " أمَّةٌ " اسمها ، وهي مبتدأ ، و " أرْبَى " خبره ، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول ، وفي موضع الجر على الوجه الثاني ، وجوَّز الكوفيون أن تكون : " أمَّةٌ " اسمها ، و " هِيَ " عماد ، أي : ضمير فصل ، و " أرْبَى " خبر " تَكونُ " ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك ؛ لأجل تنكير الاسم ، فلو كان الاسم معرفة ، لجاز ذلك عندهم .
قال مجاهد - رحمه الله - : كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ ، نقضوا حلف هؤلاء ، وحالفوا الأكثر ، فالمعنى : طلبتم العز بنقص العهدِ ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك{[20044]} .
ومعنى : " أرْبَى من أمَّةٍ " ؛ أي : أزيدُ في العدد ، والقوَّة ، والشَّرف .
ثم قال - جل ذكره- : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } ، أي : يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد .
والضمير في : " به " يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من : " أنْ تَكُونَ " ، تقديره : إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة ، أي : يختبركم بذلك .
وقيل : يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله : " هي أرْبَى " .
وقيل : على الكثرة ؛ لأنَّها في معنى الكثير .
قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى : لما كان تأنيثها غير حقيقي ، حملت على معنى التَّذكير ؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ، ولم يتقدم للكثرة للفظ ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى : { هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
ثم قال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدُّنيا ، فيميِّز المحقَّ من المبطل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.