قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } الآية .
أولها : أنه تعالى لمَّا قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد ، والنُّبوَّة ، والمعاد ، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكوراً ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : { اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } .
وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلُّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله .
وثالثها : أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة ، أو تمرَّد وعصى .
وقرئ " في عُنْقهِ " بإسكان النون وهو تخفيف ٌ شائعٌ .
اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : " عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ ، فهو ملازمه ، أينما كان " {[20252]} .
وقال الكلبي ومقاتل : " خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه " ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : " ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ " {[20253]} .
وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا إذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ ، اعتبروا أحوال الطَّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامناً أو متياسراً ، أو صاعداً إلى الجوّ ، أو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] وقوله عزَّ وجلَّ : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] فالمعنى : أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه .
وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمِّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم : طار سهمُ فلانٍ بكذا ، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء ؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ ، أو يشينُ ، فما يزين ، فهو كالتطوُّق والحليِّ ، وما يشين ، فهو كالغُلِّ ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرًّا ، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته ، فقوله : " في عُنقهِ " كناية عن اللُّزوم ؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلَّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلَّدتك كذا ، وطوَّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه " قلَّدهُ السُّلطانُ كذا " أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ ، ومكان الطوقِ ، ومنه يقال : فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه .
وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدمِ ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له ، وما كان لازماً للشيء ؛ كان ممتنع الزَّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضاً : فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : " ألْزَمنَاهُ " ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : " جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ " {[20254]} .
قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً } .
العامة على " نُخْرِجُ " بنون العظمة مضارع " أخْرجَ " ، و " كِتاباً " فيه وجهان :
والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف ؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتاباً ، أي : ونخرج الطائر .
ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ : " ويُخْرَجُ " مبنياً للمفعول ، كتاباً نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنَّه رفع " كتاباً " وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة .
وقرأ الحسن{[20255]} : " ويَخْرُجُ " بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، مضارع " خَرجَ " " كتابٌ " فاعل به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نصبا " كتابا " على الحال ، والفاعل ضمير الطائر ، أي : ويخرجُ له طائره في هذا الحال ، وقرئ{[20256]} " ويُخْرِجُ " بضمِّ الياء وكسر الراء ، مضارع " أخرجَ " والفاعل ضمير الباري تعالى ، " كتاباً " مفعولٌ .
قوله تعالى : " يَلْقاهُ " صفةٌ ل " كتاباً " ، و " مَنْشُوراً " حالٌ من هاء " يَلْقَاهُ " وجوَّز الزمخشري وأبو البقاء{[20257]} وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِ " كِتَاباً " ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ ، على الصَّريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه .
وقرأ ابن عامرٍ{[20258]} وأبو جعفر " يُلقَّاهُ " بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى :
{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع " لَقِيَ " .
قال الحسن : بسطنا لَكَ صحيفةً ، ووُكِّل بك ملكانِ ، فهما عن يمينك ، وعن شمالِكَ ، فأمَّا الذي عن يمينك ، فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك ، فيحفظ سيِّئاتك ؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك ، وجعلت معك في قبرك ؛ حتى تخرج لك يوم القيامة ، فقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي : من قبره{[20259]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.