اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } الآية .

في كيفية النَّظم وجوهٌ :

أولها : أنه تعالى لمَّا قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد ، والنُّبوَّة ، والمعاد ، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكوراً ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : { اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } .

وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلُّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله .

وثالثها : أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة ، أو تمرَّد وعصى .

وقرئ " في عُنْقهِ " بإسكان النون وهو تخفيف ٌ شائعٌ .

فصل

اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : " عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ ، فهو ملازمه ، أينما كان " {[20252]} .

وقال الكلبي ومقاتل : " خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه " ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : " ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ " {[20253]} .

وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا إذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ ، اعتبروا أحوال الطَّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامناً أو متياسراً ، أو صاعداً إلى الجوّ ، أو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] وقوله عزَّ وجلَّ : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] فالمعنى : أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه .

وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمِّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم : طار سهمُ فلانٍ بكذا ، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء ؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ ، أو يشينُ ، فما يزين ، فهو كالتطوُّق والحليِّ ، وما يشين ، فهو كالغُلِّ ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرًّا ، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته ، فقوله : " في عُنقهِ " كناية عن اللُّزوم ؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلَّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلَّدتك كذا ، وطوَّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه " قلَّدهُ السُّلطانُ كذا " أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ ، ومكان الطوقِ ، ومنه يقال : فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه .

وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدمِ ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له ، وما كان لازماً للشيء ؛ كان ممتنع الزَّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضاً : فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : " ألْزَمنَاهُ " ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : " جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ " {[20254]} .

قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً } .

العامة على " نُخْرِجُ " بنون العظمة مضارع " أخْرجَ " ، و " كِتاباً " فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به .

والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف ؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتاباً ، أي : ونخرج الطائر .

ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ : " ويُخْرَجُ " مبنياً للمفعول ، كتاباً نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنَّه رفع " كتاباً " وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة .

وقرأ الحسن{[20255]} : " ويَخْرُجُ " بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، مضارع " خَرجَ " " كتابٌ " فاعل به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نصبا " كتابا " على الحال ، والفاعل ضمير الطائر ، أي : ويخرجُ له طائره في هذا الحال ، وقرئ{[20256]} " ويُخْرِجُ " بضمِّ الياء وكسر الراء ، مضارع " أخرجَ " والفاعل ضمير الباري تعالى ، " كتاباً " مفعولٌ .

قوله تعالى : " يَلْقاهُ " صفةٌ ل " كتاباً " ، و " مَنْشُوراً " حالٌ من هاء " يَلْقَاهُ " وجوَّز الزمخشري وأبو البقاء{[20257]} وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِ " كِتَاباً " ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ ، على الصَّريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه .

وقرأ ابن عامرٍ{[20258]} وأبو جعفر " يُلقَّاهُ " بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى :

{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع " لَقِيَ " .

فصل

قال الحسن : بسطنا لَكَ صحيفةً ، ووُكِّل بك ملكانِ ، فهما عن يمينك ، وعن شمالِكَ ، فأمَّا الذي عن يمينك ، فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك ، فيحفظ سيِّئاتك ؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك ، وجعلت معك في قبرك ؛ حتى تخرج لك يوم القيامة ، فقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي : من قبره{[20259]} .


[20252]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/47) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/303) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره البغوي في "تفسيره" (3/108).
[20253]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/108) عن الكلبي ومقاتل.
[20254]:أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/223) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (76).
[20255]:ينظر في قراءتها النشر 2/306، والإتحاف 2/194، والقرطبي 10/150، والبحر 6/15، والدر المصون 3/376.
[20256]:نسبها الفراء في معاني القرآن 2/118 إلى أبي جعفر المدني، وينظر: البحر 6/14، والدر المصون 4/376.
[20257]:ينظر: الإملاء 2/89.
[20258]:ينظر: السبعة 378، والنشر 2/38، والتيسير 139، والحجة 398، والحجة للقراء السبعة 5/87، والقرطبي 10/150، والبحر 6/14.
[20259]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/49) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/304) وعزاه إلى الطبري.