اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا} (26)

وقوله تعالى : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية ؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا ، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب ، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم ، كما ذكرنا ، فإن نازعوك فيها ، فأجبهم فقل : { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي : فهو أعلم منكم ، وقد أخبر بمدَّة لبثهم .

وقيل : إنَّ أهل الكتاب قالوا : إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين ، فردَّ الله عليهم ، وقال : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا ، لا يعلمه إلاَّ الله .

قوله : { ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ } : قرأ الأخوان بإضافة " مِئةِ " إلى " سنين " والباقون بتنوين{[20970]} " مِئةٍ " .

فأمَّا الأولى : فأوقع فيها الجمع موقع المفرد ؛ كقوله : { بالأخسرين أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع " أعْمَالاً " موقع " عملاً " وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه ، وفي مصحف عبد الله " سنة " بالإفراد ، وبها قرأ أبيّ ، وقرأ الضحاك " سِنُونَ " بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي سنُونَ .

وأمَّا الباقون ، فلما لم يروا إضافة " مِئَة " إلى جمعٍ ، نَوَّنُوا ، وجعلوا " سِنينَ " بدلاً من " ثَلاثمائةٍ " أو عطف بيان .

قال البغويُّ{[20971]} : فإن قيل لِمَ قال : " ثلاثمائة سنين " ولم يقل سنة ؟ فالجواب ، لمَّا نزل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ } فقالوا : أيَّاماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، فنزلت " سنين " .

وقال الفراء : من العرب من يضع " سنين " موضع سنة .

ونقل أبو البقاء{[20972]} أنها بدل من " مِئَةٍ " لأنها في معنى الجمع . ولا يجوز أن يكون " سِنينَ " في هذه القراءة تمييزاً ؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز ؛ كقوله :

3507أ- إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً *** فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ{[20973]} .

فصل

قيل : المعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة { وازدادوا تِسْعاً } .

قال الكلبيُّ : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا علم لنا بها ، فنزلت : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } .

روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : عند أهل الكتاب : أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة ، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة ، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين ، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ ، وتِسْع سنينَ ، فَلذلِكَ قال : " وازْدَادُوا تِسْعاً " {[20974]} .

قال ابن الخطيب{[20975]} : وهذا مشكلٌ ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب ، فإن قيل : لِمَ لا قيل : ثلاثمائة ، وتسع سنين ؟ .

وما الفائدة في قوله : " وازْدَادُوا تِسْعاً " ؟ .

فالجواب : أن يقال : لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة ، قرب أمرهم من الانتباه ، ثمَّ اتفق ما أوجب [ بقاءهم في النَّوم ]{[20976]} تسع سنين .

قوله : " تِسْعاً " أي : تسع سنين ، حذف المميِّز ؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه ؛ إذ لا يقال : عندي ثلاثمائة درهم وتسعة ، إلا وأنت تعني : تسعة دراهم ، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها ، لم يجزْ ؛ لأنه إلغازٌ ، و " تِسْعاً " مفعولٌ به ، وازداد : افتعل ، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي ، وكان متعدِّياً لاثنين ؛ نحو : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، فلما بني على الافتعال ، نقص واحداً .

وقرأ{[20977]} الحسن وأبو عمرو في رواية " تسعاً " بفتح التاء كعشرٍ .

قوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها ؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض .

والغَيْبُ : ما يغيب عن إدراكك ، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض ، يكون عالماً بهذه الواقعة ، لا محالة .

قوله : { أَبْصِرْ بِهِ } : صيغة تعجُّب بمعنى " مَا أبْصرَهُ " على سبيل المجاز ، والهاء لله تعالى ، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب : الأصح : أنه بلفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، والباء مزيدة في الفاعل ؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ .

والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر .

والثالث : أنه ضمير المخاطب ، أي : أوقع أيُّها المخاطب ، وقيل : هو أمر حقيقة لا تعجب ، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام .

وقرأ{[20978]} عيسى : " أسْمعَ " و " أبْصرَ " فعلاً ماضياً ، والفاعل الله تعالى ، وكذلك الهاء في " به " ، أي : أبصر عباده وأسمعهم .

وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } [ البقرة : 175 ] .

قوله : { مَا لَهُم } أي : ما لأهلِ السموات والأرض .

قوله : " مِنْ دُونهِ " أي : من دون الله .

قوله : " مِنْ وليٍّ " أي من ناصرٍ .

و " مِنْ وليٍّ " يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ .

قوله : " ولا يُشْرِكُ " قرأ{[20979]} ابن عامر بالتاء والجزم [ عطفاً على قوله :

{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ } [ الكهف : 23 ] وقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى }{[20980]} ] أي : ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ ، والباقون بالياء من تحت ، ورفع الفعل ، أي : ولا يشرك الله في حكمه أحداً ، فهو نفيٌ محضٌ .

فصل في المراد بالحكم في الآية

قيل : الحكم ها هنا علم الغيب ، أي : لا يشركُ في علم غيبه أحداً .

وقرأ مجاهد وقتادة{[20981]} : " ولا يُشرِكْ " بالياء من تحت والجزم .

قال يعقوب : " لا أعرف وجهه " . قال شهاب الدين : وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان ، أضمر للعلم به .

والضمير في قوله " مَا لهُمْ " يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عطية : " وتكون الآية اعتراضاً بتهديد " كأنَّه يعني بالاعتراض : أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم ، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي .

فصل

قوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } .

قيل : ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل .

وقيل : ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله ، يتولَّى أمرهم ، ويقيم لهم تدبير أنفسهم ، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه ، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه ؟ ! .

فصل

واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم ، فقيل{[20982]} : كانوا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - وأنَّ موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم في التَّوراة ، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّتهم .

وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح ، وأخبر المسيحُ بخبرهم ، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى ، وبين محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح ، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق ، وذكر أنهم لم يموتوا ، ولا يموتون إلى يوم القيامة .

وأمَّا مكان الكهف ، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم : أن الواثق أنفذه ؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم ، قال : فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه .

وقيل : إنَّ الرجل قال : إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم ، قال : فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم .

قال : وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة ؛ لتصونها عن البلاء ؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره .

قال القفَّال : والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف ، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم ، وذكر الزمخشري عن معاوية " أنَّه لما غزا الرُّومَ ، فمرَّ بالكهف ، فقال : لو كشف عن هؤلاء ، ننظر إليهم ، فقال له ابن عباس : أيُّ شيءٍ لك في ذلك ؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك ، فقال : { لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً ، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً } .

فقال : لا أنتهي عن ذلك ، حتَّى أعلم حالهم ، فبعث أناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً ، [ فأخرجتهم ] " {[20983]} " {[20984]} .

فصل

قال ابن الخطيب{[20985]} : والعلم بذلك الزَّمان ، وذلك المكان ، ليس للعقل فيه مجالٌ ، وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ ، وهو مفقودٌ ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه .

قال ابن الخطيب{[20986]} : هذه السور الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم : سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشَّام ، وهي حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ ، وأزيد ، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب ، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب ، والغرائب المذكورة : أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات ، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات ، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات .

وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث ، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن ، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ ، يوجب أن يكون ممكناً ، بمعنى : أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ .

وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون : لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة ، وذكر أبو علي بن سفيان في " باب الزَّمان " من كتاب " الشِّفا " أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف .

قال ابن سينا : ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف .


[20970]:ينظر: السبعة 390، والتيسير 143، والحجة 414 والنشر 2/310، والإتحاف 2/112، والحجة للقراء السبعة 5/136، والكشاف 2/716، والبحر 6/112، والدر المصون 4/447.
[20971]:ينظر: معالم التنزيل 3/158.
[20972]:ينظر: الإملاء 2/101.
[20973]:البيت للربيع بن ضبع ينظر: أمالي المرتضى 1/254، خزانة الأدب 7/379، 380، 381، 385، الدرر 4/41، شرح التصريح 2/273، شرح عمدة الحافظ ص 525، الكتاب 1/208، 2/162، لسان العرب "فتا"، المقاصد النحوية 4/481، همع الهوامع 1/135، أدب الكاتب ص 299، أوضح المسالك 4/255، جمهرة اللغة ص 1032، شرح الأشموني 3/623، شرح المفصل 6/21، مجالس ثعلب ص 333، المقتضب 2/169، المنقوص والممدود ص 17، والدر المصون 4/447.
[20974]:ينظر: الفخر الرازي 21/95.
[20975]:ينظر : المصدر السابق.
[20976]:في ب: ينامهم.
[20977]:ينظر: الإتحاف 2/213، والقرطبي 1/252، والبحر 6/112، والدر المصون 4/447.
[20978]:ينظر: البحر 6/113، والدر المصون 4/448..
[20979]:ينظر: السبعة 390، والتيسير 143، والحجة 415، والنشر 2/310، والإتحاف 2/213، والحجة للقراء السبعة 5/141، والبحر 6/113.
[20980]:زيادة من ب.
[20981]:ينظر: البحر المحيط 6/113، الدر المصون 4/448.
[20982]:ينظر: الفخر الرازي 21/96.
[20983]:في ب: فأحرقتهم.
[20984]:تقدم.
[20985]:ينظر: الفخر الرازي 21/96.
[20986]:ينظر: الفخر الرازي 21/97.