قوله : { يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } .
اختلفُوا في المنادي ، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى ؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى ، ويسأله بقوله : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } ، وبقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } وبقوله : { فهب لي } ، وبقوله بعده : { رب أنّى يكون لي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى ، وإلاّ لفسد [ المعنى و ]{[21426]} النَّظْم ، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ ؛ لقوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } [ آل عمران : 39 ] .
وأيضاً : فإنه لمَّا قال : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] .
وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله ؛ فوجب أن يكون كلام الملكِ .
ويمكنُ أن يكون قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى ، كما سيأتي ببيانه -إن شاء الله تعالى- .
[ في ] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءهُ ، فقال : { يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } : بولدٍ ، ويقال : زكريَّا " بالمد والقصر " ، ويقال : زكرَى أيضاً ، نقله ابن كثيرٍ .
فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ ، فما معنى البشارة ؟ وإن كان بغير إذنٍ ؛ فلماذا أقدم عليه ؟ .
فالجوابُ{[21427]} : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنَّه أذن له فيه ، ولم يعلمْ وقته ، فبُشِّر به .
قوله : { يَحْيَى } : فيه قولان :
أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنعهُ من الصَّرف ؛ للعلميَّة والعجمةِ ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ ، كما سمَّوا ب " يَعْمُرَ " و " يعيشَ " و " يَمُوتَ " وهو يموت بنُ المُزرَّع .
والجملة من قوله : { اسْمُهُ يَحْيى } في محلِّ جرِّ صفة ل " غُلام " وكذلك " لم نجعلْ " و " سَمِيًّا " كقوله : " رَضيًّا " إعراباً وتصريفاً ، لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيماً .
قال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعكرمةُ ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم{[21428]} .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً{[21429]} ؛ لقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أي : مثلاً .
والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ ؛ لأنَّهُ لم يعصِ ، ولم يهُمَّ بمعصية قط ؛ كأنَّه جواب لقوله { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين ، ومنْ كان كذلك ، كان في غايةِ الرضا .
وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله ؛ كآدَمَ ، ونوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، [ وعيسى ]{[21430]} ؛ وذلك باطلٌ .
وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء ؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً .
وقال عليٌّ بنُ أبي{[21431]} طلحة ، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ{[21432]} ولداً . وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس ، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصِّه .
وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ ، وعجوزٍ عاقرٍ .
فصل في سبب تسميته بيحيى{[21433]}
واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى ، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : { يا ويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى .
وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة ، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا ، والعاصِيَ ميِّتاً ؛ بقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] .
وقال : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة ؛ حتى لم يعص ، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى ، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا ، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا " {[21434]} وفي هذا نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى الأنبياء كلهم والأولياء ب " يحيى " .
وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] وفي ذلك نظر ؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى .
وقال عمرو بنُ المقدسيِّ{[21435]} : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم -عليه السلام- أنه قُلْ لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً ، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى ، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً ، فوهبته حرفاً من اسمها ، فصار يَحْيَى ، وكان اسمُها يسارة ، فصار اسمها سارة .
وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ .
وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ ، أحاملٌ أنت ؟ فقالت : لم تقولين ؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.