اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا} (7)

قوله : { يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } .

اختلفُوا في المنادي ، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى ؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى ، ويسأله بقوله : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } ، وبقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } وبقوله : { فهب لي } ، وبقوله بعده : { رب أنّى يكون لي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى ، وإلاّ لفسد [ المعنى و ]{[21426]} النَّظْم ، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ ؛ لقوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } [ آل عمران : 39 ] .

وأيضاً : فإنه لمَّا قال : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] .

وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله ؛ فوجب أن يكون كلام الملكِ .

ويمكنُ أن يكون قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى ، كما سيأتي ببيانه -إن شاء الله تعالى- .

[ في ] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءهُ ، فقال : { يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } : بولدٍ ، ويقال : زكريَّا " بالمد والقصر " ، ويقال : زكرَى أيضاً ، نقله ابن كثيرٍ .

فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ ، فما معنى البشارة ؟ وإن كان بغير إذنٍ ؛ فلماذا أقدم عليه ؟ .

فالجوابُ{[21427]} : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنَّه أذن له فيه ، ولم يعلمْ وقته ، فبُشِّر به .

قوله : { يَحْيَى } : فيه قولان :

أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنعهُ من الصَّرف ؛ للعلميَّة والعجمةِ ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ ، كما سمَّوا ب " يَعْمُرَ " و " يعيشَ " و " يَمُوتَ " وهو يموت بنُ المُزرَّع .

والجملة من قوله : { اسْمُهُ يَحْيى } في محلِّ جرِّ صفة ل " غُلام " وكذلك " لم نجعلْ " و " سَمِيًّا " كقوله : " رَضيًّا " إعراباً وتصريفاً ، لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيماً .

فصل

قال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعكرمةُ ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم{[21428]} .

وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً{[21429]} ؛ لقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أي : مثلاً .

والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ ؛ لأنَّهُ لم يعصِ ، ولم يهُمَّ بمعصية قط ؛ كأنَّه جواب لقوله { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين ، ومنْ كان كذلك ، كان في غايةِ الرضا .

وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله ؛ كآدَمَ ، ونوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، [ وعيسى ]{[21430]} ؛ وذلك باطلٌ .

وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء ؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً .

وقال عليٌّ بنُ أبي{[21431]} طلحة ، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ{[21432]} ولداً . وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس ، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصِّه .

وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ ، وعجوزٍ عاقرٍ .

فصل في سبب تسميته بيحيى{[21433]}

واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى ، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : { يا ويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى .

وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة ، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا ، والعاصِيَ ميِّتاً ؛ بقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] .

وقال : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .

وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة ؛ حتى لم يعص ، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى ، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا ، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا " {[21434]} وفي هذا نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى الأنبياء كلهم والأولياء ب " يحيى " .

وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] وفي ذلك نظر ؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى .

وقال عمرو بنُ المقدسيِّ{[21435]} : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم -عليه السلام- أنه قُلْ لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً ، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى ، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً ، فوهبته حرفاً من اسمها ، فصار يَحْيَى ، وكان اسمُها يسارة ، فصار اسمها سارة .

وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ .

وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ ، أحاملٌ أنت ؟ فقالت : لم تقولين ؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك .


[21426]:زيادة من أ.
[21427]:ينظر: الفخر الرازي 21/158.
[21428]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/310) عن قتادة وابن جريج وابن زيد والسدي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/468) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وأحمد في "الزهد" وعبد بن حميد. وأخرجه الحاكم (2/372) عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/468) وزاد نسبته إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21429]:أخرجه الطبري (8/310) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/468) وعزاه إلى أحمد في "الزهد" وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21430]:زيادة من أ.
[21431]:ينظر: معالم التنزيل 3/189.
[21432]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/309) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/468) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21433]:ينظر: الفخر الرازي 21/159.
[21434]:أخرجه أحمد (1/254، 292) من حديث ابن عباس وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/212) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني وفيه علي بن زيد وضعفه الجمهور وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح.
[21435]:ينظر: الفخر الرازي 21/159.