اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ} (2)

قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر .

الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : أو هذا ذكر .

الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء {[21380]} " وفيه بعدٌ ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها " .

و " ذِكْرُ " مصدرٌ مضافٌ ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله ، و " عَبدَهُ " مفعولٌ به ، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أن ذكر الله رحمته عبدهُ ، وقيل : بل " ذِكْرُ " مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع ، ويكون " عبدهُ " منصوباً بنفس الذِكْر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدُه ، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً .

و " زكَرِيَّا " بدلٌ ، أو عطفُ بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " .

وقرأ يحيى بن يعمر -ونقلها الزمخشريّ عن الحسن{[21381]} - " ذَكَّرَ " فعلاً ماضياً مشدداً ، و " رحمة " بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ ، قدمت على الأول ، وهو " عَبْدُهُ " والفاعلُ : إما ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ -أو ذكَّر الله- عبده رحمتُه ، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته ، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن " رحمةَ ربِّك " هو المفعول الأول ، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد ، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه .

وقرأ الكلبيُّ{[21382]} " ذكر " بالتخفيف ماضياً " رَحْمَةَ " بالنصب على المفعول به ، " عَبْدُهُ " بالرفع فاعلاً بالفعل قبله ، " زَكريَّا " بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى .

وقرأ{[21383]} يحيى بن يعمر -فيما نقله عنه الدَّاني- " ذَكَّرْ " فعل أمرٍ ، " رَحْمَةَ " و " عَبْدهُ " بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً .

فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة

قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى{[21384]} ، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن{[21385]} .

وقيل : اسمٌ للسُّورة .

وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عباس في قوله { كهيعص } قال : الكافُ من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليهم ، وعظيم ، والصاد من صادق{[21386]} .

وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة ، وعلى الحكيم أخرى .

وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل{[21387]} . قال ابنُ{[21388]} الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة ؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ ، لا بالحقيقةِ ، ولا بالمجازِ ؛ لأنَّا إن جوَّزنا ذلك ، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ ظاهر باطنا ، واللغة لا تدل على ما ذكروه ؛ لأنها ليست أولى من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو اسم من أسماء الرسول –عليه الصلاة والرسول- عليه الصلاة والسلام- أو الملائكة ، أو الجنة ، أو النار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تحكما .

فصل في المراد بقوله تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ }

يحتملُ أن يكون المراد من قوله { رَحْمَةِ رَبِّكَ } أنه عنى عبدهُ زكريَّا ، ثم في كونه رحمة وجهان :

أحدهما : أن يكون " رحْمة " على أمَّته ؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة .

والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد -عليه الصلاة والسلام- وعلى أمَّته ؛ لأنَّ الله تعالى ، لمَّا شرع لمحمَّد صلى الله عليه وسلم طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، وصار ذلك لطفاً داعياً له ، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة .

ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا .


[21380]:ينظر: الإملاء 2/110.
[21381]:ينظر: البحر 6/562، والدر المصون 4/489 وينظر: القرطبي 11/52 وقد نسبها إلى الحسن.
[21382]:ينظر: القرطبي 11/52، والبحر 6/163، والدر المصون 4/490.
[21383]:ينظر: القرطبي 11/52، والبحر 6/163، والدر المصون 4/490، والكشاف 3/3.
[21384]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/302).
[21385]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/305) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/466) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
[21386]:أخرجه الطبري (8/303) والحاكم (2/371 -372) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/465) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وعثمان الدارمي في "التوحيد" وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[21387]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/304) عن الضحاك.
[21388]:ينظر: الفخر الرازي 21/152.