قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر .
الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : أو هذا ذكر .
الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء {[21380]} " وفيه بعدٌ ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها " .
و " ذِكْرُ " مصدرٌ مضافٌ ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله ، و " عَبدَهُ " مفعولٌ به ، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أن ذكر الله رحمته عبدهُ ، وقيل : بل " ذِكْرُ " مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع ، ويكون " عبدهُ " منصوباً بنفس الذِكْر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدُه ، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً .
و " زكَرِيَّا " بدلٌ ، أو عطفُ بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " .
وقرأ يحيى بن يعمر -ونقلها الزمخشريّ عن الحسن{[21381]} - " ذَكَّرَ " فعلاً ماضياً مشدداً ، و " رحمة " بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ ، قدمت على الأول ، وهو " عَبْدُهُ " والفاعلُ : إما ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ -أو ذكَّر الله- عبده رحمتُه ، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته ، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن " رحمةَ ربِّك " هو المفعول الأول ، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد ، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه .
وقرأ الكلبيُّ{[21382]} " ذكر " بالتخفيف ماضياً " رَحْمَةَ " بالنصب على المفعول به ، " عَبْدُهُ " بالرفع فاعلاً بالفعل قبله ، " زَكريَّا " بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى .
وقرأ{[21383]} يحيى بن يعمر -فيما نقله عنه الدَّاني- " ذَكَّرْ " فعل أمرٍ ، " رَحْمَةَ " و " عَبْدهُ " بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً .
فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة
قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى{[21384]} ، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن{[21385]} .
وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عباس في قوله { كهيعص } قال : الكافُ من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليهم ، وعظيم ، والصاد من صادق{[21386]} .
وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة ، وعلى الحكيم أخرى .
وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل{[21387]} . قال ابنُ{[21388]} الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة ؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ ، لا بالحقيقةِ ، ولا بالمجازِ ؛ لأنَّا إن جوَّزنا ذلك ، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ ظاهر باطنا ، واللغة لا تدل على ما ذكروه ؛ لأنها ليست أولى من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو اسم من أسماء الرسول –عليه الصلاة والرسول- عليه الصلاة والسلام- أو الملائكة ، أو الجنة ، أو النار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تحكما .
فصل في المراد بقوله تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ }
يحتملُ أن يكون المراد من قوله { رَحْمَةِ رَبِّكَ } أنه عنى عبدهُ زكريَّا ، ثم في كونه رحمة وجهان :
أحدهما : أن يكون " رحْمة " على أمَّته ؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة .
والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد -عليه الصلاة والسلام- وعلى أمَّته ؛ لأنَّ الله تعالى ، لمَّا شرع لمحمَّد صلى الله عليه وسلم طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، وصار ذلك لطفاً داعياً له ، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة .
ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.