لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين ، وفي سبب النزول رِوايات{[3124]} .
إحداها : عن ابن عبَّاسٍ ، والضَّحَّاكِ{[3125]} : أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع ، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعثوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينةِ ، أَنَّا قد أَسلمنَا ، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك ؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك ، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبَ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ ، وخالد بن بُكَيرٍ ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ .
قال أبو هريرة{[3126]} : بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عشرةً عَيْناً ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ{[3127]} فسَارُوا ، فَنَزلُوا بَطْنَ " الرَّجِيعِ " بين مَكَّةَ والمَدِينةِ ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ ، فأبصرت النَّوَى ، فرجعت إلى قومها بمكة ، وقالت : قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ ، حتى أَحَاطُوا بهم .
وقال أبو هريرة{[3128]} : ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان ، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ ، فَاقتَفوا آثارَهُم ، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه ؛ فقالوا : تَمْرُ يَثْرِبَ ، فاتَّبعُوا آثارَهم ، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد ، فأحاط بهم القومُ ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ ، وفيها سبعة أَسهُمٍ ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ ، ثُمَّ قال : اللَّهُمَّ ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه ، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ ، وهي الزَّنابِيرُ ، فحمتْ عاصِماً ، فلم يقدِرُوا عليه ، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ ، فقالوا : دعوه حتى نُمْسِيَ ، فتذهب عنه ، فنأْخُذَه ، فجاءت سَحَابَةٌ سوداءُ ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة ، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار .
وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ : عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ ، ولا يمسَّ مُشرِكاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه ، كما امتنع عاصم في حياته ، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ ، فذهبوا بهما إلى مكةَ ، فأمَّا خُبَيْبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُناف ؛ ليقتلُوه بأبيهم ، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرٍ ، فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً ، حتَّى أجمعوا على قتلِه ، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا ، فأعارتهُ ، فدرج بُنيٌّ لها ، وهي غافِلةٌ ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِ ، والمُوسى بيده ، فصاحت المرأةُ ، فقال خبيبٌ : أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ ؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا ، فقالت المرأةُ : واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ ، وما بمكة من ثَمرةٍ ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباً ، ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ ، وأَرَادُوا أَنْ يصلبُوهُ ، فقال لهم خبَيبٌ : دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ ؛ فتركوه ، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ ، فركع ركعتين ، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ : لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزدْتُ ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً ؛ وَاقْتُلهم بَدَداً ، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ : [ الطويل ]
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ{[3129]}
فصَلبُوه حَيَّاً ؛ فقال : اللَّهُمَّ إِنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِي ، ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله ، ويُقَال : كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُو مَيْسَرة ، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ ، فقال له خُبَيْبٌ : اتَّقِ اللَّهَ ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً ، فطعنه فأَنفذه ، وذلك قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ }
وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة ؛ ليقلته بأبيه ، أُمية بن خلفٍ ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتُلهُ ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل : أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك ، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك ؟ فقال : واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه ، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي ، فقال أَبُو سُفيانَ : ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ ، ثم قتله نِسْطَاسُ .
فلمَّا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبرُ ، قال لأَصحابهِ : " أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ " فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ ، فخرجا يمشيان في الليلِ ، ويكمُنانِ بالنهار ، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً ، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى ، فَأَنْزَلاَهُ ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي ، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً ، ويده على جراحتِه ، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ ، والريحُ ريحُ المسْكِ ، فحمله الزبيرُ على فرسِه ، وساروا ؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً ، فأخبروا قُرَيْشاً ، فركب منهم سبعُون رجلاً ، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً ؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ ، وقال الزبيرُ : ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه ، وقال : أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام ، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما ، فإن شئْتم نازلْتُكم ، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم . فانصرفا إلى مَكَّة ، وقدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريلُ عِنْده ، فقال : يا محمدُ ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك " ، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ } [ البقرة : 207 ] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته{[3130]} .
وقال أكثرُ المفسِّرين{[3131]} : نزلت في صُهَيب بن سِنان ، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ ، وفي سُمَيَّة أُمَّه ، وفي ياسِرٍ أَبيه ، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب ؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم ؛ فقال لهم صُهَيبٌ : إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي ، وتذَرُوني ؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً ، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ ، ثم خرج إلى المدينَةِ ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ : رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى ؛ فقال : وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك ؟ فقال : أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية{[3132]} .
وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة ، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت ، وقُتل ياسِرٌ .
وَأَمَّا البَاقُونَ : فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون ، فتُرِكُوا ، وفيهم نزل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } بتعذيب أهل مكة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } [ النحل : 41 ] بالنَّصر والغنيمة ، { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } ، وفيهم أُنْزِلَ { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيم } [ النحل : 106 ] .
وقال سعيدُ بن المُسَيِّب ، وعَطَاء{[3133]} : أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش ، فنزل عن راحِلَته ، ونَثَلَ ما في كِنانته ، ثُمَّ قال : يا معشَرَ قريشٍ ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً ، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي ، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي ، ثم افعلُوا ما شِئْتم ، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي .
قالُوا : نَعَمْ ، ففعل ذلك ، فنزلت الآيةُ{[3134]} وقال الحسنُ : أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له : قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا ، فيقولُ المسلِم : واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل{[3135]} .
ورُوِيَ عن عُمر ، وعَلِيٍّ ، وابنِ عبَّاسٍ : أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ ، والنَّهي عن المُنْكَرِ{[3136]} .
قال ابنُ عبَّاسٍ : أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ ، فإذا لم يقبْل ، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم ، قال هذا : وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله ، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ : اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ{[3137]} ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية ؛ فقال عُمَرُ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون ، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ{[3138]} .
وقيل : نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ خُروجهِ إلى الغار{[3139]} .
قوله تعالى : " مَنْ يَشْرِي " : في " مَنْ " الوجهانِ المتقدِّمان في " مَن " الأُولَى ، ومعنى يَشْرى : يَبيعُ ؛ قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] ، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة ، وقال [ مجزوء الكامل ]
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي *** مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ{[3140]}
قال القُرْطبيُّ{[3141]} : بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ . فالمعنى : يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء .
قوله : " ابتغاءَ " منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله ، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ ، خلافاً للجرْمِي ، والمُبْرّدِ ، والرِّيَاشي{[3142]} ، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ .
و " مَرْضَاةً " مصدرٌ مبنيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة ، والقياسُ تجريدُهُ عنها ؛ نحو : مَغْزى ، ومَرْمى . قال القُرطبِيُّ{[3143]} : والمَرْضَاةُ ، الرِّضَا ، تقولُ : رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ ، وذلك لِوَجْهَين :
أحدهما : أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ *** بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ{[3144]}
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه{[3145]} .
والثاني : أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة ، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه ؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها ؛ مَنْبَهَةً على ذلك ، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ المضْمُوم ؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها ، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ{[3146]} ووَرْشٌ " مَرْضَات " .
وفي قوله : " بِالْعِبَادِ " خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْمِ الظَّاهِرِ ؛ إذ كان الأَصْلُ " رَؤوفٌ بِهِ " أَوْ " بِهِمْ " وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ " العِبَادِ " يُؤْذِنُ بالتشرِيف ، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك .
إِذَا قُلنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ ، والصيام ، والحج والجهاد ، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ ، فكأَنَّهُ كالبائِع ، واللَّهُ كالمشتري ؛ كما قال : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً ، فقال : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف :10 ، 11 ] وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا ، وقُلنا : إِنَّ المرادَ هو الشراءُ ، فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْر ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا ، والإِعْراض عن الآخرة ، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له ، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه ، وصارت حَقّاً للنار ، فإذا ترك الكفر والفِسْق ، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب .
فإن قيلَ : إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً .
فالجوابُ : أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين ؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا .
يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين ؛ كالجهادِ والصابر{[3147]} على القَتْلِ ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه ، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين ، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه ، كفعل صُهَيبٍ ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِرِ .
رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً ، فحاصَرُوا قَصْراً ، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ فقاتل حتى قُتِلَ ، فقال بعضُ القَوْمِ : أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ : كَذَبْتُم ، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ . وقرأ { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ }{[3148]} واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحمَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها ، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة ؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل .
قوله : { وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } فمن رَأْفَتِهِ{[3149]} أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع ، ومن رَأْفته{[3150]} جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء{[3151]} على النفس ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين ، وأعطاه الثوابَ الدائم .
وَمِنْ رَأْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال ، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بملكِه ؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً .