أحدها : أنَّها مبتدأٌ لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به ؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد ، فجاء الخبر عن المقصود ، إذ المعنى : من مات عنها زوجها ، تربَّصت ، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء{[3797]} ؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً *** عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا{[3798]}
فقال : " لَعَلِّيَ " ثم قال : " أَنْ يَتَنَدَّمَ " فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ ، فترك المتكلم ؛ إذ التقدير : لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً . وقال آخر : [ الطويل ]
بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ *** بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ{[3799]}
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ{[3800]} .
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء : أنه إذا ذكر اسمٌ ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول ، وأخبر عن الثاني ؛ نحو : " إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ " ، المعنى : إن أخت زيدٍ منطلقةٌ ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب ، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب . قوله : [ الوافر ]
فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي *** وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ{[3801]}
وأنكر المبرد والزجاج ذلك ؛ قالا : لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال ، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله .
الثاني : أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أنه " يَتَرَبَّصْنَ " ، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول ؛ لخلوِّها من الرابط ، والتقدير : وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله : { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه . والتقدير : يتربَّصن بعدهم ، أو بعد موتهم ، قاله الأخفش{[3802]} .
وثالثها : أنَّ " يَتَرَبَّصْنَ " خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، التقدير : أزواجهم يتربَّصْنَ ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل ، قاله المبرِّد .
ورابعها : أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ ، تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون ، ويكون قوله " يَتَرَبَّصْنَ " جملةً مبيِّنَةً للحكم ، ومفسِّرة له ، فلا موضع لها من الإعراب ، ويعزى هذا لسيبويه .
قال ابن عطيَّة : وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى : " وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ " ، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه ؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ ، نحو قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [ المائدة :38 ] { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ } [ النور :2 ] وهذه الآية فيها معنى الأمر ، لا لفظه ، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر .
وخامسها : أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ ، والتقدير : " وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ " فحذف " أَزْوَاجُهُمْ " بجملته ، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ .
وقال القرطبيُّ : المعنى : " والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ " " وَيَذَرُونَ " أي : يتركون - " أَزْوَاجاً " - أي : ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات " يَتَرَبَّصْنَ " قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس ، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ ؛ قال تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ النَّارُ } [ الحج :72 ] أي هو النَّار .
وقرأ الجمهور " يُتَوَفَّوْنَ " مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله ، ومعناه : يموتون ويقبضون ؛ قال تعالى : { اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر :42 ] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات ، فقد وجد عمره وافياً كاملاً .
وقرأ{[3803]} علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل ، ومعناه : يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ ، قاله الزمخشريُّ .
ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ ، فقال له رجلٌ : من المتوفِّي ؟ بكسر الفاء ، فقال : الله ، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو .
وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة :228 ] وهل " بِأَنْفُسِهِنَّ " تأكيدٌ أو لا ؟ وهل نصبُ " قُرُوء " على الظرف ، أو المفعوليَّة ؟ وهو جارٍ هاهنا .
قوله : " مِنكُمْ " في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع " يتَوَفَّوْنَ " والعامل فيه محذوفٌ ، تقديره : حال كونهم منكم ، و " مِنْ " تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج هاهنا .
و " التَّرَبُّصُ " : التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً ، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق :6 ] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد{[3804]} وإنما قال : " يَتَرَبَّصْنَ " فبينت السُّنَّة جميع ذلك .
قوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } إنما قال " عَشْراً " من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام ؛ لوجوه :
الأول : أنَّ المراد " عَشْرَ لَيَالٍ " مع أيامها ، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها ؛ قال الزمخشريُّ : وقيل " عَشْراً " ذهاباً إلى الليالي ، والأيام داخلةٌ فيها ، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقول : " صُمْتُ عَشْراً " ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم ، ومن البيِّن قوله تعالى : { إِلاَّ عَشْراً } [ طه :103 ] ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه :104 ] .
الثاني : قال المبرِّد : إنَّ حذف التاء ؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ ، تقول العرب : " سِرْنَا خَمْساً " أي : بين يوم وليلة ؛ قال : [ الطويل ]
فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ *** وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا{[3805]}
والثالث : أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام ، وإنما حذفت التاء ؛ لأنَّ المعدود المذكر ، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده ؛ قالوا " صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام " ، وإذا حذف لفظاً ، جاز في العدد الوجهان : ذكر التاء وعدمها ، حكى الكسائيُّ : " صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً " ، ومنه الحديث : وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ " ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ *** تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ{[3806]}
قال أبو حيَّان : " فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد ؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا " ، قال : " وإذا تقرر هذا ، فجاء قوله : " وَعَشْراً " على أحد الجازئين ، وإنما حسن حذف التاء هنا ؛ لأنه مقطع كلام ، فهو شبيهٌ بالفواصل ؛ كما حسَّن قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه :103 ] كونه فاصلةً ، فقوله : " ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ " ليس كما ذكر ، بل هو الأفصح ، وفائدة ذكره " إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً " بعد قوله " إِلاَّ عَشْراً " أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلةٌ معها ، فقوله : " إِلاَّ يَوْماً " دليلٌ على إرادةِ الأيَّام " . قال أبو حيان : " وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام ؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث ، فقال بعضهم : " عَشْراً " وقال بعضهم : " يَوْماً " فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام ؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم : عَشْرُ لَيَالٍ ، فيقول البعضُ : يَوْمٌ " .
الرابع : أنَّ هذه الأيَّام [ أيَّام حزن ومكروه ، ومثل هذه الأيَّام ]{[3807]} تسمَّى بالليالي على سبيل الاستعارة ؛ كقولهم : " خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج " .
الخامس : أنَّ المراد بها الليالي ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ ، وبعض الفقهاء قالوا : إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ ، حلَّت للأزواج{[3808]} .
لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع ، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً ؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق .
فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة
هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها ، إلاَّ في صورتين :
الأولى : أن تكون أمَةً ، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة .
وقال أبو بكر الأصمُّ{[3809]} : عدتها عدَّة الحرَّة ؛ لظاهر هذه الآية ، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة ؛ فوجب أن يشتركا فيه .
وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق{[3810]} .
الصُّورة الثانية : أن تكون حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل ، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - : أن تتربّصن بأبعد{[3811]} الأجلين .
واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق :4 ] .
فإن قيل : هذه الآية إنما وردت عقيب ذكر المطلَّقات ؛ [ فيكون للمطلَّقات ]{[3812]} لا للمتوفَّى عنها زوجها .
فالجواب : أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ .
وأيضاً : قال عبد الله بن مسعود{[3813]} : " أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى " أراد بالقصرى " سُورَة الطَّلاَقِ " ، وبالطُّولى " سُورَة البَقَرَةِ " ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق : { وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق :4 ] نزلت بعد قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } فحمله على الفسخ ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة ، وهو ما روي في " الصَّحِيحَينِ " : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع ، وهي حاملٌ ، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهرٍ ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب ، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك ، رجلٌ من بني عبد الدَّار ، فقال لها : ما لي أراك متجمِّلةً ، لعلَّك تريدين النِّكاح ، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، قالت سبيعة : فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالت : فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتَّزويج ، إن بدا لي{[3814]} .
ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة ، وقال ابن عبَّاس : لا عدَّة عليها قبل الدُّخول{[3815]} .
فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها
اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد ، إذا توفِّي عنها سيِّدها ، فقال سعيد بن المسيَّب ، والزُّهريُّ ، والحسن البصريُّ{[3816]} ، وجماعةٌ : عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، وبه قال الأوزاعيُّ ، وإسحاق .
وروي عن عليٍّ ، وابن مسعود : أن عدَّتها ثلاث حيضٍ ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي .
قال مالكٌ : لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة ، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة ، فهاهنا يكفيها الشُّهور ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن ارتابت ، استبرأت نفسها من الرِّيبة ؛ كما أنَّ ذات الأقراء ، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط .
إذا مات الزوج ، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ{[3817]} بالأهلَّة ، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً ، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً ، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ .
وإن مات ، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة ، وكمل العشرين من الشَّهر السادس .
أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول ، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهانيِّ{[3818]} ، فإنّه أبى نسخها ، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى . والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول .
اختلفوا في ابتداء هذه المدَّة ، فقال بعضهم : ابتداؤها من حين العلم بالوفاة ؛ لقوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص ، والقصد لا يكون إلا مع العلم .
وقال الأكثرون : ابتداؤها من حيث الموت ؛ لأنَّه سببها ، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها ، ثم بلغها خبر الوفاة ، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة .
قال القرطبيُّ{[3819]} : أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة ؛ لقوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق :6 ] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيَّب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، ويحيى الأنصاريُّ ، وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق{[3820]} : ليس لها نفقةٌ ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي .
وروي عن عليّ ، وعبد الله : أنَّ لها النفقة من جميع المال ، وبه قال ابن عمر ، وشريحٌ ، وابن سيرين ، والشَّعبيُّ ، وأبو العالية ، والنَّخعيُّ ، وحماد بن أبي سلمان ، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ ، وأبو عبيدٍ{[3821]} .
روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب ؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر ؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة ، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ{[3822]} .
احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام ؛ بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } قالوا : هذا خطابٌ مع المؤمنين ، فاختصَّ بهم ، وجوابه أنَّ المؤمنين ، لمَّا كانوا هم العاملين بذلك ، خصَّهم بالذِّكر ؛ كقوله :
{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات :45 ] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ ؛ لقوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان :1 ] .
قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } : أي إذا انقضت هذه المدة ، { فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قيل الخطاب مع الأولياء ؛ لأنَّهم الذين يتولَّون العقد .
قوله : { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أي : مِن اختيار الأَزواج دون العقد ، فإن العقد إلى الوَلِيِّ .
وقيل : فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع .
فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ
يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة ، وهو الامتناع من الزِّينة والطِّيب ، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان ، سواء كان فيه طِيبٌ أو [ لم يكن ]{[3823]} ، [ ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيبٌ ، فلا يجوز{[3824]} ] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ ، كالكُحْل الأسود ، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله ، وسليمان بنُ يسارٍ ، وعطاءٌ والنخعيُّ{[3825]} ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الرأي .
وقال الشَّافعيُّ : تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً .
قالت أمُّ سلمة : دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تُوُفِّي أبو سلمة ، وقد جعلت عليَّ صبراً ، فقال : إنَّه يَشُبُّ الوجه ، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار{[3826]} .
ولا يجوز لها الخضابُ ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب ، ولُبْسُ الصوف والوبر ، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ ؛ كالأَحمر ، والأصفر ، والأَخضر النَّاضر ، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ .
وقال سفيان : لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ{[3827]} .
قال القرطبيُّ{[3828]} : إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن ، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه ، وعليه أكثرُ الفقهاءِ ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة ، فلها السكنى في مدَّة العدَّة ؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن : " أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ " .
وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء ، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء ، فالذي في " المُدَوَّنَة " أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت ، وإن كان مُوسِراً ؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يملكه مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً ، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً ، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده ، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ ، دون السُّكْنَى ؛ لأنَّ ذلك مالٌ ، وليس بسكْنَى{[3829]} . ورُوي عن مالكٍ : أن الكِراء{[3830]} لازمٌ للميِّت في ماله .
ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة ، ولا تبيتُ إِلاَّ في منزلها ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر " يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها ، وبه قال أبو حنيفة ، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد ؛ كالمسلمة ، وبه قال الشافعيُّ .
والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار ، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة ، ولا على صغيرة ، وقال الحسن : الإحْدَادُ ليس بواحبٍ{[3831]} .
قوله : " بِالْمَعْرُوفِ " فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ حالاً من فاعل " فَعَلْنَ " ، أي : فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له .
والثاني : أنه مفعولٌ به ، أي : تكونُ الباءُ باءَ التعدية .
الثالث : أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ ، أي : فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف ، أي : كائناً ، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه{[3832]} : أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ ، أي : فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف ، وهو الوجهُ الرابعُ .
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ } متعلق ب " خَبِيرٌ " ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ ، و " مَا " يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى " الذي " أو نكرةً موصوفة ، وهو ضعيفٌ ، وعلى هذين القولين ، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه ، إلا على رأي ضعيفٍ .
تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قالوا : وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة ؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ .
والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء ، أو الحُكَّام ؛ كما تقدَّم ، وتقدير الآية : لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم ، ثم قال : { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً ؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن ، وذلك هو الحلالُ من التزويج{[3833]} إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة ، والله أعلم .