[ اعلم ] أنه لما أقام دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد أولاً ، ثم عقبها بذكر الإنعامات العامّة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليَهُودِ استمالةً لقلوبهم ، وتنبيهاً على ما يدلّ على نبوة " محمّد عليه الصَّلاة والسَّلام " من حيث كونها إخباراً عن الغيب ، موافقاً لما كان موجوداً في التَّوْراة والإنجيل من غير تعلّم ، ولا تتلمُذِ .
قوله : " يَا بَنِي " منادى منصوب وعلامة نصبه الياء ؛ لأنه جمع مذكّر سالم ، وحذفت نونه للإضافة ، وهو شبيه بجمع التَّكسير لتغير مفرده ، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير ، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث ، نحو : " قالت بنو فلان " ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
424- قَالَتْ بَنُو عَامرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ *** يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ{[1235]}
وأعربوه بالحركات أيضاً إلحاقاً له به ، قال الشاعر : [ الوافر ]
425- وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَليٌّ *** أَباً بَرّاً وَنَحْنُ لَهُ بَنِينُ{[1236]}
[ فقد روي بَنِينُ ]{[1237]} برفع النون ، وهل لامه ياء ؛ لأنه مشتقّ من البناء ؛ لأن الابن من فرع الأب ، ومبنيٌّ عليه ، أو واو ؛ لقولهم : البُنُوَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة ؛ قولان .
الصَّحيح الأول ، وأما البُنّوة فلا دلالة فيها ؛ لأنهم قد قالوا : الفُتُوَّة ولا خلاف أنها من ذوات " اليَاءِ " .
إلا أن " الأخفش " رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر .
واختلف في وزنه فقيل : " بَنَيٌ " بفتح العين ، وقيل : بَنْيٌ - بسكونها ، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العَشْرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوَصْل .
و " إسرائيل " خفض بالإضافة ، ولا ينصرف للعلمية والعُجْمة ، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل : " عبد الله " فإن " إِسْرَا " هو العبد بلغتهم ، و " إيل " هو الله تعالى . وقيل : " إسْرا " هو مشتقّ من الأسْر ، وهو القوّة ، فكان معناه الذي قَوَّاه الله .
وقيل " إسْرَا " هو صفوة الله ، و " إيل " هو الله .
وقال القَفّال : قيل : إن " إسرا " بالعبرانية في معنى إنسان ، فكأنه قيل : رجل الله ، فكأنه خطاب مع اليَهُودِ الذين كانوا بالمدينة .
وقيل : إنه أسرى بالليل مهاجراً إلى الله .
وقيل : لأنه أَسَرَ جِنِّيّاً كان يطفئ سِرَاجَ بَيْتِ المَقْدِسِ .
قال بعضهم : فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّاً ، وبعضه أعجميّاً ، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن ، وهي قراءة الجمهور .
وقرأ{[1238]} " أبو جعفر والأعمش " : " إسْرَايِل " بياء بعد الألف من غير همزة ، وروي عن " وَرْش " " إسْرَائِل " بهمزة بعد الألف دون ياء ، و " إسْرَأَل " بهمزة مفتوحة ، و " إسْرَئِل " بهمزة مكسورة بين الراء واللام{[1239]} ، و " إسْرَال " بألف محضة بين الراء واللام ؛ قال : [ الخفيف ]
426- لاَ أَرَى مَنْ يُعِينُنِي في حَيَاتِي *** غَيْرَ نَفْسِي إلاَّ بَنِي إسْرَالِ{[1240]}
وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع . و " إسْرائيل " هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ ، عن ورش ، و " إسْرَايل " من غير همز ولا مَدّ و " إسْرَائِين " أبدلوا من اللام نوناً ك " أُصَيْلاَن " في " أُُصَيْلاَل " ؛ قال : [ الرجز ]
427- يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا *** هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إِسْرائِينَا{[1241]}
428- قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا *** هَذَا لعَمْرُ اللَّهِ إٍسْرَائِينَا{[1242]}
ويجمع على " أَسَارِيل " . وأجاز الكوفيون " أَسَارِلَة " ، و " أَسَارل " ، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه ، نحو : " فَرَازِنة " و " فَرَازين " .
قال الصَّفار{[1243]} : لا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله .
قال ابن الجوزي{[1244]} : ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّ له أسماء كثيرة .
وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام غير مشتقّ ، وقد سمَّاه الله تَعَالَى روحاً وكلمة ، وكانوا يسمونه " أبيل الأبيلين " ، ذكره " الجوهري " .
وذكر " البيهقي " في " دلائل النبوة " عن " الخليل بن أَحْمد " : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين ، نبينا محمد وأحمد ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النُّون ، وإلياس وذو الكِفْل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
قول : { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } .
" اذكروا " فعل وفاعل ، و " نعمتي " مفعول .
وقال " ابن الأنباري " : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره : شكر نِعْمتي .
و " الذكر " بضم الذال وكسرها بمعنى واحد ، ويكونان باللِّسان والجِنَان .
وقال " الكسائي " : هو بالكسر للسان ، وبالضَّّم للقَلْب فضدّ المكسور : الصَّمت ، وضد المضموم : النِّسْيان ، وبالجملة فالذكر الذي محلّه القَلْب ضدّه النسيان ، والذي محلّه اللسان ضده الصَّمت ، سواء قيل : إنهما بمعنى واحد أم لا .
و " الذَّكَر " بالفتح خلاف الأُنْثَى ، و " الذِّكر " أيضاً الشرف ومنه قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] .
النعمة اسم لما ينعم به ، وهي شبيهة ب " فِعْل " بمعنى " مفعول " نحو : ذبح ورعي ، والمراد الجمع ؛ لأنها اسم جنس ، قال الله تعالى :
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] .
قال " أبو العباس المقرئ " : " النِّعْمَة " بالكسر هي الإسلام ، قال تعالى : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ }
وقال : { فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 8 ] يعني : الإسلام .
وقال : { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } [ النمل : 19 ] .
وقوله : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } [ آل عمران : 171 ] أي : الإسلام .
قال ابن الخطيب{[1245]} : حَدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير .
وقيل : الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا : وإنما زدنا هذا ؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر ، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر .
قال : والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ، وإن كان فعله محظوراً ؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جِهَةِ استحقاق الذَّم والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته ، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك ؟
واعلم أن نعم الله على العَبْدِ لا تتناهى ، ولا تحصى كما قال تعالى :
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] .
فإن قيل : فإذا كانت النعم غير مُتَنَاهية ، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد ، فكيف أمر بتذكرها في قوله : { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } ؟
والجواب : أنها غير مُتَنَاهية بحسب الأشخاص والأنواع ، إلاّ أنها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصَّانع الحكيم .
فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا
اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا ؟
فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة ، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيِلاً إلى الضرر العظيم ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] .
ومنهم من قال : إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدِّين ، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [ وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله ]{[1246]} .
قال ابن الخطيب{[1247]} : وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] الآيات فأمر الكُلّ بطاعته لمكان هذه النعم ، وهي نعمة الخلق والرزق .
وثانيها : قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] وذكره في معرض الامتنان ، وشرح النعم ، ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شَيْءٌ من النعم لما صَحّ ذلك .
وثالثها : قوله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهذا نصّ صريح ؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب ، وكانوا من الكفار ، وكذا قوله تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 47 ] إلى قوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ } إلى قوله : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } [ الأنعام : 6 ] .
وخامسها : قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
[ الأنعام : 63 ] إلى قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 64 ] .
وسادسها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] وقال في قصة " إبليس " : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
وسابعها : قوله : { وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ } [ الأعراف : 74 ] وقال : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 140 ] .
وثامنها : قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ } [ الأنفال : 53 ] .
وتاسعها : قوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } [ يونس : 5 ] .
وعاشرها : قوله : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ } [ يونس : 22 ] إلى قوله : { يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ } [ يونس : 23 ] .
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي ؛ لأنه لا نِزَاعَ في أن الحياة والعقل والسمع والبصر ، وأنواع الرزق ، والمنافع من الله تعالى إنما الخِلاَفُ في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المَضَارّ الأبدية ، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا ؟ ومعلوم أن ذلك نِزَاعٌ في مجرّد عبارة .
فَصْلٌ في النعم المخصوصة ببني إسرائيل
استنقذهم من فرعون وقومه ، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القَتْلِ ونساءهم من الاستحياء ، وخلصهم من البلاء ، ومكنهم في الأرض ، وجعلهم ملوكاً ، وجعلهم الوَارِثين بعد أن كانوا عبيداً للقبط ، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وأنزل عليهم [ الكتب العظيمة ، وجعل فيهم أنبياء ، وآتاهم ما لم يُؤْت أحداً من العَالَمينَ ، وظَلَّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم ]{[1248]} المّنّ والسَّلْوَى ، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شَاءُوا من الماء متى أرادوا ، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم ، وأعطاهم عموداً من النور يضيء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تَبْلَى . رواه " ابن عباس " .
قال ابن الخطيب{[1249]} : إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه :
أحدها : أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي التوراة ، والإنجيل ، والزَّبُور .
وثانيها : أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مُخَالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
وثالثها : أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحَيَاءَ عن إظهار المخالفة .
ورابعها : أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المُنْعِمَ خصّهم من بين سائر الناس بها ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة ، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النِّعَمِ الآتية ، وذلك الطمع مانعٌ من إظهار المخالفة والمخاصمة .
فإن قيل : إن هذه النِّعم إنما كانت على المُخَاطبين وأسْلافهم ، فكيف تكون نعمة عليهم ؟
فالجواب : لَوْلاَ هذه النعم على آبائهم لما بقوا ، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء ، وأيضاً فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدِّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، وأيضاً فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله تعالى خصّ آباءهم بهذه النِّعَمِ لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة ؛ لأنَّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكر داعياً إلى الاشْتِغَال بالخيرات .
قوله : { الَّتِي أَنْعَمْتُ } .
" التي " صفة " النعمة " والعائد محذوف .
فإن قيل : من شرط [ حذف ]{[1250]} عائد الموصول إذا كان مجروراً أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ، وأن يتّحد متعلقهما ، وهنا قد فقد الشَّرطان ، فإن الأصل : التي أنعمت بها .
فالجواب : إنما حذف بعد أن صار منصوباً بحذف حرف الجرّ اتساعاً فبقي " أنعمتها " وهو نظير : { كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] في أحد الأوجه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
و " عليكم " متعلّق به ، وأتى ب " على " دلالة على شمول النعمة لهم .
قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } .
هذه جملة أمرية عطف على الأمرية قبلها . ويقال : " أَوْفَى " ، و " وَفَّى " ، و " وَفَى " مشدداً ومخففاً ثلاث لغاتٍ بمعنى ؛ قال الشاعر : [ البسط ]
429 أَمَّا ابْنُ [ طَوْقٍ ]{[1251]} فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ *** كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيها{[1252]}
وقيل : يقال : أوفيت ووفيت بالعهد ، وأوفيت الكَيْلَ لا غير ، وعن بعضهم : أن اللغات الثلاث واردة في القرآن .
وأما " وَفَّى " بالتشديد فكقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] .
وأما " وَفَى " بالتخفيف ، فلم يصرح به ، وإنما أخذ من قوله تعالى : { أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } ، وذلك أن " أَفْعَل " التفضيل لا يبنى إلاّ من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهور ، وإن كان في المسألة كلام كثير ، ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشَّاطبي{[1253]} .
ويجيء " أَوْفَى " بمعنى : ارتفع ؛ قال : [ المديد ]
430 رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ *** تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالاتُ{[1254]}
و " بعهدي " متعلّق ب " أوفوا " ، و " العَهْد " مصدر ، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول .
والمعنى : بما عاهدتكم عليه من قَبُولِ الطَّاعة ، ونحوه : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } [ يس : 60 ] أو بما عاهدتموني عليه ، ونحوه : { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] .
و " أُوفِ " مجزوم على جواب الأمر ، وهل الجازم الجملة الطَّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط ، أو حرف شرط مقدر تقديره : إن توفوا بعهدي أوف ؟ قولان .
وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف .
وقرأ الزّهري{[1255]} : " أُوَفِّ " بفتح الواو وتشديد الفاء للتَّكثير .
و " بِعَهْدِكُمْ " متعلّق به [ وهذا ]{[1256]} محتمل للإضافة إلى الفاعل ، أو المفعول على ما تقدّم .
فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه
في العَهْدِ المأمور بوفائه قولان :
أحدهما : أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ، وقوله : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أراد به الثواب والمغفرة .
وقال " الحسن " : هو قوله : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ } إلى قوله : { الأَنْهَارَ } [ المائدة : 12 ] .
وحكى " الضحاك " عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطَّاعات ، ونهيتكم عنه من المعاصي ، وهو قول جمهور المفسرين .
وقيل : هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } إلى قوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ المائدة : 12 ] .
وقال في سورة الأعراف : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] إلى قوله : { وَالإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] وأما عهد الله معهم ، فهو أن يضع عنهم إصْرَهُمْ والأغلال ، لقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] الآية وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ } [ الصف : 6 ] .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : [ إن الله تعالى ]{[1257]} كان عهد إلى بني إسرائيل في التَّوْرَاة أني باعث من بني إسماعيل نبيّاً أمياً ، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به أي القرآن [ أغفر له ذنبه ، وأدخله ] {[1258]}الجَنَّة ، وجعلت له أجرين ؛ أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً [ باتباع ]{[1259]} ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم [ النبي الأمي ] من ولد إسماعيل ، وتصديق هذا في القُرْآن في قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 52 ] إلى قوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 54 ] .
وتصديقه أيضاً بما روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يُؤْتَوْنَ أجرهم مَرَّتَيْنِ بما صبروا : رَجُل من أهْل الكتاب آمن بِعِيسَى ، ثم آمَنَ بمحمّد صلى الله عليه وسلم [ فله أَجْرَانِ ] ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تَأدِيبَهَا ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، ثم أَعْتَقَهَا فتزوَّجَهَا ، فله أَجْرَان ، وعبد أَطَاعَ اللَّه ، وأطاع سَيّدَهُ فله أَجْرَان " .
فإن قيل : إنْ كان الأمر هكذا ، فكيف يجوز جَحْدَهُ من جماعتهم ؟
الأول : أنّ هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء في كتبهم ، لكن لم يكن منهم عَدَدٌ كثير ، فجاز منهم كِتْمَانُ ذلك .
الثاني : أن ذلك النصّ كان خفيّاً لا جليّاً ، فجاز وقوع الشَّكّ فيه .
فإن قيل : الشخص الموعود به في هذه الكتب ، أما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وَقْت خروجه ، ومكان خروجه ، وسائر التَّفَاصيل المتعلّقة بذلك ، أو لم يذكر شيء من ذلك .
فإن كان الأول كان [ ذلك ]{[1260]} النص نصّاً جليّاً وارداً في كتب مَنْقُولة إلى أهل العلم بالتواتر ، فيمتنع قدرتهم على الكِتْمَانِ ، ويلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين .
وإن كان الثاني لم [ يدلّ ]{[1261]} ذلك النَّص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يقولوا : إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود .
والجواب : قال ابن الخطيب{[1262]} : " لم يكن منصوصاً عليه نصّاً جليّاً يعرفه كل أحد ، بل كان منصوصاً عليه نصّاً خفيّاً ، فلا جَرمَ لم يلزم أن يعلم ذلك بالضَّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين " .
قوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } .
" إياي " ضمير منصوب منفصل ، وقد عرف ما فيه في " الفاتحة " ، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : " وإيايَ ارْهَبُوا فارْهَبُون " ، وإنما قدرته متأخراً فيه ؛ لأن تقديره متقدماً عليه لا يحسن لانفصاله ، وإن كان بعضهم قدره كذلك .
والفاء في " فارهبون " فيها قولان للنحويين :
أحدهما : أنها جواب أمر مقدر تقديره : تنبّهُوا فارهبون ، وهو نظير قولهم : " زيداً فاضرب " أي : تنبه فاضرب زيداً ، ثم حذف " تنبه " ، فصار : فاضرب زيداً ، ثم قدم المفعول إصلاحاً للفظ ؛ لئلا تقع الفاء صدراً{[1263]} ، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين .
والقول الثاني في هذه " الفاء " : أنها زائدة .
وقال " أبو حيان " بعد أن حكى القول الأول : فتحمل الآية وجهين :
أحدهما : أن يكون التقدير : " وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون " ، فتكون " الفاء " حصلت{[1264]} في جواب الأمر ، وليست مؤخّرة من تقديم .
والوجه الثاني : أن يكون التقدير : وتنبّهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول ، وفعل الأمر الذي هو " تنبهوا " محذوف ، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء ، يعني : فصار التقدير : " وفإياي ارهبوا " ، فقدم المفعول على الفاء إصلاحاً للفظ ، فصار : " وإيّاي فارهبوا " ، ثم أعيد المفعول على سبيل التَّأكيد ، ولتكمل الفاصلة ، وعلى هذا في " إياي " منصوب بما بعده لا بفعل محذوف ، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل ، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل .
و " الرَّهَبُ " و " الرَّهْب " ، و " الرَّهْبَة " : الخوف ، مأخوذ من الرّهَابة ، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف ، وسقطت " الياء " بعد " النون " ؛ لأنها رأس فاصلة .
وقرأ ابن أبي إسحاق{[1265]} : " فَارْهَبُوني " بالياء ، وكذا : { فَاتَّقُونِي } [ البقرة : 41 ] على الأصل .
ويجوز في الكلام " وأنا فارهبون " على الابتداء والخبر .
وكون " فارهبون " الخبر على تقدير الحذف كان المعنى : " وأنا ربكم فارهبون " .
وفي الآية دليلٌ على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحداً إلا الله تعالى ، ولما وجب ذلك في الخوف ، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء ، وأن ذلك لا بد منه .