هذه الآية دالّة على كيفية تنظيم الله - تعالى - لآدم عليه الصَّلاة والسلام ، فيكون ذلك إنعاماً عامًّا على جميع بني آدم ، فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامّة التي أوردها .
" إذ " ظرفُ زمانٍ ماض ، يخلص المضارع للمضي ، وبني لشبهه بالحَرْفِ في الوضع والافتقار ، وتليه الجُمَل مطلقاً .
قال المبرد : إذا جاء " إذ " مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [ الأنفال : 30 ] يريد : إذ مكروا ، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] وقد يبقى على مُضِيِّهِ كهذه الآية .
وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم ، وتأخير الفعل نحو : " إذ زيد قام " ، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه ، نحو : " يومئذ " و " حينئذ " ، ولا يكون مفعولاً به ، وإن قال به أكثر المعربين ، فإنهم يقدرون " ذكر وقت كذا " ، ولا ظرف مكان ، ولا زائداً ، ولا حرفاً للتعليل ، ولا للمفاجأة خلافاً لمن زعم ذلك .
وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم ، ويعوض منها تنوين كقوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] وليس كَسْرته - والحالةُ هذه - كسرة إعراب ، ولا تنوينه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش ، بل الكسر لالتقاء السَّاكنين ، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر ، ولا إضافة ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
نَهَيْتُكَ عَنْ طِلاَبِكَ أُمَّ عَمْرٍو *** بِعَاقِبَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ{[1026]}
وللأخفش أن يقول : أصله : " وأنت حينئذ " فلما حذف المضاف بقي المُضَاف إليه على حاله ، ولم يقم مقامه نحو : { وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ }
[ الأنفال : 67 ] بالجر ، إلا أنه ضعيف .
و " قَالَ رَبُّكَ " : جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها ، واعلم أنّ " إذ " فيه تسعة أوجه ، أحسنها أنه منصوب ب { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القول وَقْتَ قول الله عز وجل إني جاعل في الأرض خليفة ، وهذا أسهل الأوجه .
الثاني : أنه منصوب ب " اذكر " مقدراً ، وقد تقدم أنه لا يتصرّف ، فلا يقع مفعولاً .
الثالث : أنه منصوب ب " خلقكم " المتقدّم في قوله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] والواو زائدة . وهذا ليس بشيء لطول الفصل .
الرابع : أنه منصوب ب " قال " بعده ، وهذا فاسد ؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف .
الخامس : أنه زائد ، ويُعْزَى لأبي عبيدة .
السابع : أنه خبر لمبتدأ مَحْذُوف تقديره : ابتداء خلقكم وَقْتَ قول ربك .
الثامن : أنه منصوب بفعل لائقٍ تقديره : ابتدأ خلقكم وَقْتَ قوله ذلك .
وهذان ضعيفان ، لأن وقت ابتداء الخَلْقِ ليس وقت القول ، وأيضاً فإنه لا يتصرف .
التاسع : أنه منصوب ب " أحياكم " مقدراً ، وهذا مردودٌ باختلاف الوقتين أيضاً .
و " للملائكة " متعلّق ب " قال " واللاَّم للتبليغ . و " ملائكة " جمع " مَلَك " ، واختلف في " ملك " على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه ، هل هي أصلية أو زائدة ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا .
فقال بعضهم : " ملك " وزنه " فَعَلٌ " من المِلْك ، وشذّ جمعه على " فَعَائلة " ، فالشذوذ في جمعه فقط .
وقال بعضهم : بل أصله " مَلأْك " ، والهمزة فيه زائدة ك " شَمْأَل " ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى " اللام " ، وحذفت الهمزة تخفيفاً ، والجمع جاء على أصل الزيادة ، فهذان قولان عند هؤلاء .
والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً :
فمنهم من قال : هو مشتقٌّ من " أَلَكَ " أي : أرسل ، ففاؤه همزة ، وعينه لام ؛ ويدلّ عليه قوله : [ المنسرح ]
أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَألُكَةً *** عَنِ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكَذِب{[1027]}
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ *** بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ{[1028]}
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَألُكاً *** أَنَّه قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي{[1029]}
فأصل ملك : مألك ، ثم قلبت العين إلى موضع " الفاء " ، و " الفاء " إلى موضع " العين " على وزن " مَعْفَل " ثم نقلت حركة " الهمزة " إلى " اللام " ، وحذفت " الهمزة " تخفيفاً ، فيكون وزن ملك : " مَعَلاً " بحذف الفاء .
ومنهم من قال : هو مشتقّ من " لأك " أي : أرسل أيضاً ، ففاؤه لام ، وعينه همزة ، ثم نقلت حركة الهمزة ، وحذفت كما تقدّم ، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال : [ الطويل ]
فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ{[1030]}
ثم جاء الجمع على الأصل ، فردّت الهمزة على كلا القولين ، فوزن " ملائكة " على هذا القول " مَفَاعلة " ، وعلى القول الذي قبله " مَعَافِلَة " بالقَلْب .
وقيل : هو مشتقٌّ من : " لاَكَهُ - يَلُوكُه " إذا " أداره - يديره " ؛ لأن الملك يدير الرسالة في فِيْهِ ، فأصل مَلْك : مَلْوَك ، فنقلت حركة " الواو " إلى " اللام " الساكنة قبلها ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلب " ألفاً " ، فصار : ملاكاً مثل : " مقام " ، ثم حذفت الألف تخفيفاً ، فوزنه : " مفل " بحذف العين ، وأصل " ملائكة " : " ملاوكة " ، فقلبت " الواو همزة " ، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو : " عَجَائز " و " رَسَائل " ، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلاً قالوا : " مَصَائب " و " مَنَائِر " ، وقرئ شاذًّا : { مَعَائِشَ } [ الأعراف : 10 ] بالهمز ، فهذه خمسة أقوال .
السّادس : قال النضر بن شُمَيْلٍ{[1031]} : لا اشتقاق ل " الملك " عند العرب " والهاء " في " ملائكة " لتأنيث الجمع ، نحو : " صَلاَدمة " .
وقيل : للمُبَالغة ك " عَلاّمة " و " نسَّابة " ، وليس بشيء ، وقد تحذف هذه الهَاء شذوذاً ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
أَبَا خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ{[1032]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اختلفوا في ماهيّة الملائكة ، وحقيقتهم ، والضابط فيه أن يقال : إن المَلاَئكة ذوات قائمة بأنفسها ، وهي إما متحيّزة ، أو ليست بمتحيّزة ، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال :
أحدها : أنها أجسام لطيفة هَوَائية تقدر على التشكُّل بأشكال مختلفةٍ مسكنها السماوات ، وهذا قول أكثر المسلمين .
الثاني : قول طوائف من عَبَدَةِ الأوثان : أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسْعَادِ ، والإِنْحَاسِ ، فَالْمُسْعِدَات منها ملائكة الرَّحمة ، والمنحسات منها مَلاَئكة العذاب .
الثالث : قول معظم المَجُوس ، والثنوية : وهو أن هذا العَالمَ مركّب من أصلين أزليين ، وهما النور والظّلمة ، وهُمَا في الحقيقة جَوْهَرَان شَفَّافان مُخْتَاران قادران ، متضادا النّفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النُّور فاضل خيّر ، نقيّ طيّب الريح ، كريم النفس يسر ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويَحْيَا ولا يبلى ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك .
ثم إنَّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء ، وهم الملائكة لا على سبيل التَّنَاكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء ، وهم الشياطين على سبيل تولّد السَّفهِ من السفيه لا على سبيل التناكح .
القول الثاني : وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها ، وليست بمتحيّزة ، ولا بأجسام . فهاهنا قولان :
الأول : قول طوائف من النَّصَارى ، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النَّاطقة المفارقة لأبدانها على نَعْتِ الصفاء والخيرية ، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافيةً خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثةً كَدِرَةً فهي الشياطين .
والثاني : قول الفَلاَسفة وهي أنها جَوَاهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة ، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النَّاطقة البشرية ، وأنها أكملُ قوةً منها ، وأكثر علماً منها ، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشَّمس بالنسبة إلى الأضواء ، ثم إنَّ هذه الجَوَاهر على قسمين : منها ما هي بالنسبة إلى أجْرَام الأَفْلاَك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي لا عَلَى شَيْءٍ من تدبير الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة الله ، ومحبته ومشتغلة بطاعته ، وهذا القسم هُمُ الملائكة المُقَرَّبُون ، ونسبتهم إلى الملائكة الَّذِين يدبرون السَّمَاوات ، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النَّاطقة ، فهذان القِسْمَان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ، ومنهم من أثبت أنواعاً أُخَرَ من الملائكة ، وهي الملائكة الأرضية المدبِّرة لأحوال هذا العالم السفليّ ، ثم إن المدبرات لهذا العَالَم إن كانت خيرةً فهم الملائكة ، وإن كانت شريرةً فهم الشياطين .
قال عليه الصلاة والسلام : " أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ما فيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ ، أو راكع " {[1033]} .
[ وروي أن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البَرّ ، وهؤلاء كلهم عُشْر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البَحْرِ ، وهؤلاء كلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها ، وكلّ هؤلاء ملائكة سَمَاء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السَّماءِ الثانية وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السَّماء السَّابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكُرسي نَزْر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السّرادق الواحد من سُرَادقات العرش التي عددها ستمائة ألف ، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السَّمَاوات والأرضون وما فيها وما بينها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً ، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجد ، أو راكع ]{[1034]} وقائم ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتَّقديس ، ثم كلّ هؤلاء في مُقَابلة الملائكة الذين يَحُومُونَ حول العرش كالقَطْرَةِ في البحر ، ولا يعلم عَدَدَهُمْ إلا اللهُ تعالى ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللَّوْحِ الذين هم أشياع إسرافيل عليه السّلام ، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السَّلام ، ولا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى ، على ما قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
وروي في بعض كتب التَّذكير أنه - عليه الصلاة والسلام - حين عرج به رأى ملائكة في مَوْضِعٍ بمنزلة سوق بعضهم يمشي تُجَاهَ بعض ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَى أيْنَ يَذْهَبُونَ ؟ فقال جبريل عليه السَّلام : لا أَدْرِي إِلاّ أنِّي أراهُمْ مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم سأل واحداً منهم وقيل له : مذ كم خلقت ؟ فقال : لا أدري غير أن الله - تعالى - يخلق كوكباً في كلّ أربعمائة ألف سنةٍ ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خَلَقَنِي أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجلّ كماله .
فصل فيمن قيل له من الملائكة : " إني جاعل "
اختلفوا في المَلاَئكة الَّذِين قال لهم : " إنِّي جاعلٌ لهم " كُلّ الملائكة ، أو بعضهم ؟ فروى الضَّحَّاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين [ كانوا مُحَاربين ] مع " إبليس " ؛ لأن الله - تعالى - لما أسكن الجنّ الأرض ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدِّماء ، وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله " إبليس " في جُنْدٍ من الملائكة ، فقتلهم " إبليس " بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض ؛ وألْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ البَحْر ، وشعوب الجِبَالِ ، وسَكَنُوا الأرض ، وخفّف الله عنهم العبادة ، وأعطى " إبليس " ملك الأرض ، وملك سماء الدنيا ، وخزانة الجنّة ، فكان يعبد الله تارة في الأرض ، وتارة في السماء ، وتارة في السماء ، وتارة في الجنة ، فأخذه العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا المُلْكَ إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } .
وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العُمُوم .
فإن قيل : ما الفائدة في أن الله قال للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } مع أنه مُنَزّه عن الحاجة إلى المَشُورة ؟ .
الأوّل : أنه - تعالى - علم أنهم إذا اطَّلَعُوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السُّؤال ، فكانت المَصْلَحَة تقتضي إحاطتهم بذلك الجَوَاب ، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السُّؤال ، ويسمعوا ذلك الجواب .
والثاني : أنه - تعالى - علم عباده المَشُورة .
قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القول ، فهي في محل نصب به ، وكسرت " إِنَّ " هنا ، لوقوعها بعد القول المجرَّد من معنى الظَّنِّ محكية به ، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان : الفَتْح والكَسْر ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ *** نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ{[1035]}
وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ ؛ نظراً لمعنى الظن ، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول .
قسم يجب فيه كسرها ، وقسم يجب فيه فتحها ، وقسم يجوز فيه الوجهان .
والضابط الكُليّ في ذلك : أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ ، وجب فيه فتحها ؛ نحو : " بلغني أنك قائمٌ " ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا ، وجب فيه كَسْرُها ؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكل موضع جاز أن يسدّ مسدّها ، جاز الوجهان ؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء ، و " إذا " الفجائية .
أحدهما : أنه بمعنى " خالق " فيكون " خليفة " مفعولاً به و " فِي الأَرضِ " فيه حينئذ قولان :
أحدهما : وهو الواضح - أنه متعلّق ب " جاعل " والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من النكرة بعده .
القول الثاني : أنه بمعنى " مُصَيِّر " ذكره الزَّمَخْشَرِي ، فيكون " خليفة " هو المفعول الأول ، و " في الأرض " هو الثَّاني قدم عليه ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر .
والأرض قيل : إنها " مكة " ، روى ابن سابط{[1036]} عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ " ولذلك سميت " أم القرى " ، قال : وقبر نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب بين " زمزم " والمَقَام{[1037]} .
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب .
و " خليفة " يجوز أن يكون بمعنى " فاعل " أي : يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ ، وهذا أصح ، لدخول تاء التأنيث عليه .
وقيل : بمعنى " مفعول " أي : يخلف كل جيل من تقدمه ، وليس دخول " التَّاء " حينئذ قياساً ، إلاَّ أن يقال : إن " خليفة " جرى مجرى الجَوَامِدِ ك " النَّطيحة " و " الذَّبيحة " . وإنما وحّد " خليفة " وإن كان المراد الجمع ؛ لأنه أريد به آدم وذرّيته ، ولكن استغني بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيْلَةِ نحو : " مُضَر " و " رَبِيْعَة " وقيل : المعنى على الجنس .
وقال " ابن الخطيب " : الخليفة : اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى .
و " الخَلَفُ " - بالتحريك - من الصَّالحين ، وبتسكينها من الطَّالحين .
واختلفوا في أنه لِمَ سمّاه - أي : خليفة - على وجهين :
فروي عن " ابن عباس " أنه - تعالى - لما نفى الجنّ من الأرض ، وأسكنها آدم كان آدم - عليه الصلاة والسَّلام - خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه ، لأنه خلفهم{[1038]} .
والثاني : إنما سمَّاه الله خليفةً ، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه ، ويروى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والسّدي وهذا{[1039]} الرأي متأكّد بقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ ص : 26 ] . [ روى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أنبياً كان آدم مرسلاً ؟ قال : نعم . . الحديث ]{[1040]} .
فإن قيل : لمن كان رسولاً ، ولم يكن في الأرض أحد ؟ .
فيقال : كان رسولاً إلى ولده ، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بَطْنٍ ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، وأنزل عليه تحريم الميتة والدَّم ولحم الخِنْزِير ، وعاش تسعمائة وثلاثين سنةً . ذكره أهل التوراة والله أعلم . [ وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة ]{[1041]} .
وقرئ{[1042]} : " خلِيقةً " بالقاف ، و " خليفة " منصوب ب " جاعل " كما تقدّم ؛ لأنه اسم فاعل ، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقاً إن كان فيه الألف واللام ، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافته لمعموله تخفيفاً ما لم يفصل بينهما كهذه الآية .
هذه الآية دليلٌ على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له وَيُطَاع{[1043]} ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بَيْنَ الأئمة إلاّ ما روي عن الأصَمّ ، وأتباعه أنها غير واجبةٍ في الدين - وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحقّ من أنفسهم ، وقسموا الغَنَائم والفَيْء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك ، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه .
قوله : { قَالُواْ : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } قد تقدم أن " قالوا " عامل في { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } ، وأنه المختار ، والهمزة في " أتجعل " للاستفهام على بابها ، وقال الزمخشري : " للتعجب " ، وقيل : للتقرير ؛ كقوله : [ الوافر ]
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا *** وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ{[1044]}
وقال " أبو البَقَاءِ " للاسترشاد ، أي : أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل . و " فيها " الأولى متعلّقة ب " تجعل " إن قيل : إنها بمعنى " الخَلْق " ، و " من يفسد " مفعول به .
وإن قيل : إنها بمعنى " التصيير " ، فيكون " فيها " مفعولاً ثانياً قدّم على الأول ، وهو " من يفسد " ، و " من " تحتمل أن تكون كموصولةً ، أو نكرة موصوفة ، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب ، وعلى الثَّاني محلها النصب ، و " فيها " الثانية متعلّقة ب " يفسد " . و " يفسك " عطف على " يفسد " بالاعتبارين .
والجمهور على رَفْعِهِ ، وقرئ منصوباً{[1045]} على جواب الاستفهام بعد " الواو " التي تقتضي الجمع بإضمار " أن " كقوله : [ الكامل ]
أَتَبِيتُ رَيَّانَ الْجُفُونِ مِنَ الكَرَى *** وَأَبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ{[1046]}
وقال : " ابن عطية " : " منصوب بواو الصرف " وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى " واو الصرف " أن الفعل كان يقتضي إعراباً ، فصرفته " الواو " عنه إلى النصب .
والمشهور " يَسْفِكُُ " بكسر الفاء ، وقرئ بضمها{[1047]} وقرئ أيضاً{[1048]} بضم حرف المُضَارعة من " أُسْفِكُ " .
وقرئ أيضاً{[1049]} مشدداً للتكثير . و " السَّفْك " : هو الصَّب ، ولا يستعمل إلاّ في الدم .
وقال ابن فارس والجوهري : " يستعمل أيضاً في الدمع " .
وقال " المَهْدَوِيّ " : ولا يستعمل السَّفك إلاّ في الدم ، وقد يستعمل في نَثْرِ الكلام ، يقال : سفك الكلام ، أي : نثره .
و " السَّفاك " : السفاح ، وهو القادر على الكلام .
و " الدِّمَاء " جمع " دَمٍ " ولا يكون اسمٌ معربٌ على حرفين ، فلا بُدَّ له من ثالث محذوف هو لامه ، ويجوز أن تكون " واواً " وأن تكون " ياء " ؛ لقولهم في التثنية " دَمَوَان " و " دَمَيَان " ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا *** جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ الْيَقِينِ{[1050]}
وهل وزن دم : " فَعْل " بسكون العين ، أو " فَعَل " بفتحها ؟ قولان ؛ وقد يُرَدُّ مَحْذُوفُهُ ، فيستعمل مقصوراً ك " عَصَا " ؛ وعليه قول الشاعر :
كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا *** أَعْقَبَتْهَا الْغُبْسُ مِنْهُ عَدَمَا
غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَرْقُبُهُ *** فَإِذَا هِيْ بِعِظَامٍ وَدَمَا{[1051]}
" الأَطُوم " : الناقة ، " وبرغزها " : ولدها ، و " الغُبْسُ " : الضباع .
وقد تشدّد ميمه ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
أَهانَ دَمَّكَ فَرْغاً بَعْدَ عِزَّتِهِ *** يَا عَمْرُو بَغْيُكَ إِصْرَاراً عَلَى الْحَسَدِ{[1052]}
وأصل الدِّمَاء : " الدِّمَاو " أو " الدِّمَاي " فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفاً بعد ألف زائدةٍ ، نحو : " كِسَاء " و " رِدَاء " .
فإن قيل : الملائكة لا يعملون إلا بما علموا ، ولا يسبقونه بالقول ، فكيف قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } ؟ .
فالجواب : اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : إنهم ذكروا ذلك عن ظَنّ قياساً على حالِ الجِنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصَّلاة والسّلام ، قاله ابن عباس ، والكلبي وأحمد بن يحيى .
الثَّاني : أنهم عرفوا خلقة آدم ، وعرفوا أنه مركّب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغَضَبِ ، فيتولّد الفساد من الشَّهْوَةِ ، وسَفْك الدماء من الغضب .
ومنهم من قال : إنهم قالوا ذلك على يَقِيْنٍ ، وهو مروي عن " ابن مسعود " وناس من الصحابة ، وذكروا وجودهاً :
أحدها : أنه - تعالى - لما قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟
قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضاً ، فعند ذلك قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟
إما على طريق التعجُّب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه ، وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعاً الاستخلاف والعصيان .
وثانيها : أنه - تعالى - كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلقٌ عظيم أفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء .
وثالثها : قال ابن زَيْدٍ : لما خلق الله النَّارَ خافت الملائكة خوفاً شديداً ، فقالوا : ربنا لمن خلقت هذه النار ؟ قال : لمن عَصَانِي من خلقي ، ولم يَكُنْ لله يومئذ خلقٌ سوى الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة ، فلما قال : { إني جاعِلٌ في الأرض خليفةً } عرفوا أن المعصية تظهر منهم .
ورابعها : لما كتب القلم في اللوح [ المحفوظ ]{[1053]} ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فلعلّهم طالعوا اللّوح ، فعرفوا ذلك .
وخامسها : إذا كان مَعْنَى الخليفة من يكون نائباً لله في الحكم والقضاء ، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع ، والتَّظَالم ، فكان الإخبار عن وُجودِ الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشَّرِّ بطريق الالتزام .
وسادسها : قال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خليفةً يفعل كذا وكذا ، قالوا : أتجعل فيها الَّذي علمناه أم غيره .
قوله : { ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } الواو : للحال ، و " نحن نسبح " : جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ النصب على الحال .
و " بحمدك " : متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حالٌ أيضاً ، و " الباء " فيه للمصاحبة أي : نسبّح ملتبسين بحمدك ، نحو : جاء زيدٌ بثيابه . فهما حَالاَنِ مُتَدَاخلان ، أي حال في حال .
وقيل : " الباء " للسببية فتتعلّق بالتسبيح ، قل " ابن عطية " : ويحتمل أن يكون قولهم : " بحمدك " اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قلوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضا على جهة التسليم ، أي : وأنت المَحْمُودُ في الهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون " الباء " للسببية ، ولكن يكون ما تعلّقت به " الباء " فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديره : حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك .
و " الحمد " هنا : مصدر مُضَاف لمفعوله ، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك ، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه ، وهو غلط ؛ لأنَّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخِلاَف في المصدر الواقع موقع الفِعْل ، نحو : " ضرباً زيداً " هل يتحمّل ضميراً أو لا وقد تقدم .
و " نُقَدِّسُ " عطف على " نُسَبِّحُ " فهو خبر أيضاً عن " نحن " ، ومفعوله محذوف أي : نقدس أنفسنا وأفعالنا لك .
و " لك " متعلّق به ، أو ب " نسبح " ومعناها العلّة .
وقيل : زائدة ، فإنَّ ما قبلها متعدٍّ بنفسه ، وهو ضعيف ، إذ لا تُزَاد " اللام " إلا مع تقديم المعمول ، أو يكون العامل فرعاً .
وقيل : هي مُعَدِّيَةٌ : نحو : " سجدت لله " .
وقيل : للبيان كهي في قولك : " سُقْياً لك " فعلى هذا تتعلّق بمحذوف ، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي : تقديساً لك .
وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم : أعني ؛ لأنه أليق بالموضع . وأبعد من زعم أن جملة " ونحن نسبح " داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره : وأنحن نسبح أم نتغير ؟ واستحسنه ابن عطية{[1054]} مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : " أتجعل " وهذا يأباه الجمهور ، أعني : حذف همزة الاستفهام من غير ذكر " أم " المعادلة وهو رأي " الأخفش " وجعل من ذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ }
[ الشعراء : 22 ] أي : وأتلك نعمة .
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقَاً إِلَى البِيضِ أَطْرَبُ *** وَلاَ لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ{[1055]}
أَفْرَحَ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنْ *** أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلا{[1056]}
فأما مع " أم " جائز لدلالتها عليه ؛ كقوله : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً *** بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ{[1057]}
و " التسبيح " : التنزيه والبَرَاءة ، وأصله من السَّبح وهو البعد ، ومنه السَّابح في الماء ، فمعنى " سبحان الله " أي : تنزيهاً له وبراءةً عما لا يليق بجلاله ومنه : [ السريع ]
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ{[1058]}
أي : تنزيهاً ، وهو مختص بالباري تَعَالى .
قال " الراغب " في قوله : سبحان من عَلْقَمَةَ الفاخر إن أصله : سُبْحَانَ علقمة ، على سبيل التهكُّم فزاد فيه " من " .
وقيل : تقديره : سبحان الله من أجل عَلْقَمَة ، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير البَارِي على سبيل التهكُّم ، وفيه نظر .
و " التقديس " : التَّطهير ، ومنه الأرض المقدَّسَة ، وبيت المَقْدِس ، ورُوح القُدُس ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا *** كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدِّسِ{[1059]}
وقال : " الزمخشري " {[1060]} : هو من قدس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد ، فمعناه قريب من معنى " نسبّح " .
أحدها : نطهرك أي : نَصِفُكَ بما يليق بك من العلو والعزّة .
وثانيها : قول مجاهد : نطهر أنفسنا من ذنوبنا ابتغاءً لمرضاتك .
وثالثها : قول أبي مسلم : نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصةً لك .
ورابعها : نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقةً في أنوار معرفتك .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على مذهبنا من وجوه :
أحدها : قولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم ، فلو كانت أفعالاً لله - تعالى - لما حسن التمدُّح بذلك ، ولا فضل لذلك على سفك الدماء ؛ إذ كل ذلك من فعل الله تعالى .
وثانيها : إذا كان لا فاحشة ، ولا ظُلْم ، ولا وجود إلاّ بصنعه وخلقه ومشيئته ، فكيف يصح التنزيه والتقديس ؟
وثالثها : أن قوله : { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يدلّ على مذهب العَدْلِ ، لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر ، فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا ، فلما لم يَرْضَ بهذا الجواب سقط هذا المذهب .
ورابعها : لو كان الفساد والقَتْلُ من فعل الله - تعالى - لكان ذلك جارياً مجرى أجسامهم ، وألوانهم ، وكما لا يصح التعجُّب من هذه الأشياء ، فكذا من الفساد والقتل .
والجواب : المُعَارضة بمسألة الداعي والعلم ، والله أعلم .
قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أصل " إِنِّي " : فاجتمع ثلاثة أمثال ، فحذفنا أحدها ، وهل هو " نون " الوقاية ، أو " النون " الوسطى ؟
قولان : الصحيح الثاني ، وهذا شبيه{[1061]} بما تقدم في { إِنَّا مَعَكُمْ }
[ البقرة : 14 ] وبابه ، والجملة في محل نَصْب بالقول .
و " أعلم " يجوز فيه أن يكون فعلاً مضارعاً ، وهو الظاهر ، و " ما " مفعول به ، وهي : إما نكرة موصوفة أو موصولة ، وعلى كل تقدير ، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط : أي : تعلمونه .
وقال " المهدي ، ومكّيّ " {[1062]} وتبعهما " أبو البقاء " {[1063]} : إن " أعلم " اسم بمعنى " عالم " ؛ كقوله : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإِنِّي لأَوْجَلُ *** عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ{[1064]}
ف " ما " يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة ، أو نصب ب " أعلم " ، ولم ينون " أعلم " لعدم انصرافه بإجماع النحاة .
واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه نحو : " هؤلاء حَوَاجّ بيت الله " .
أحدهما : جعل " أفعل " بمعنى " فاعل " من غير تفضيل .
والثاني : أن " أفعل " إذا كانت بمعنى اسم الفاعل عملت عمله ، والجمهور لا يثبتونها .
وقيل : " أعلم " على بابها من كونها للتفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، أي : أعلم منكم ، و " ما " منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه " أفعل " أي : علمت ما لا تعلمون ، ولا جائز أن ينصب ب " أفعل " التفضيل ؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفِعْلِ في العمل ، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر : [ الطويل ]
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيًّا مُصَبَّحاً *** وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا
أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ *** وَأَضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا{[1065]}
ف " القَوَانِس " منصوب بفعل مقدر أي : ب " ضرب " لا ب " أضرب " ، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحَذْف يتبيّن المفضل عليه ، والناصب ل " ما " .
فصل في بيان علام الجواب في الآية
اختلف علماء التأويل في هذا الجواب وهو قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فقيل : إنه جواب لتعجّبهم ، كأنه قال : لا تتعجّبوا من أن فيهم من يفسد ، ويقتل ، فإني أعلم مع هذا أن فيهم صالحين ، ومتّقين ، وأنتم لا تعلمون .
وقيل : إنه جواب لغمّهم كأنه قال : لا تغتمّوا بسبب وجود المفسدين ، فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتّقين ، ومن لو أقسم على لأبرّه . وقيل : إنه طلب الحكمة كأنه قال : إن مصلحتكم أن تعرفوا وَجْهَ الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل . بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدةً لكم .
وقال " ابن عباس " : كان " إبليس " - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكِبَرُ لما جعله خازن السّماء ، وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزيّةٍ له ، فاستحب الكفر والمعصية في جانب آدم - عليه الصلاة والسلام - وقالت الملائكة : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله لهم : { إني أعلم ما لا تَعْلَمُونَ{[1066]} } ، وقيل : المعنى عام ، أي : أعلم ما لا تعلمون مما كان ، وما يكون ، وما هو كائن .