" الذين " يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر ، وهو من ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه نعت ل " المتقين " .
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : " أولئك " الأولى .
والثاني : " أولئك " الثانية ، والواو زائدة ، وهذان القولان منكران ؛ لأنه قوله : " والذين يؤمنون " يمنع كونه " أولئك " الأولى خبراً ، ووجود الواو يمنع كون " أولئك " الثانية خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
قال الزمخشري : " فإذا كان موصولاً كان الوقف على " المتقين " حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً " .
وهو مضارع علامة رفعه " النون " ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به " ألف " اثنين ، أو " واو " جمع ، أو " ياء " مخاطبة ، نحو : " يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين " .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث ، على تفصيل يأتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب .
وهو مضارع " أمن " بمعنى : صدق ، و " آمن " مأخوذ من " أمن " الثلاثي ، فالهمزة في " أمن " للصّيرورة نحو : " أعشب المكان " أي : صار ذا عُشْب .
أو لمطاوعة فعل نحو : " كبه فأكب " ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] ، { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى } [ يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل " يؤمنون " : " يؤأمنون " بهمزتين :
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الأولى ؛ لأن همزة " أَفْعَل " تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : " أكرم " و " يكرم " و " أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم " .
وإنما حذفت ؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرف المُضَارعة همزة نحو : " أنا أكرم " ، الأصل : أأكرم بهمزتين ، الأولى : للمضارعة والثانية : همزة " أفعل " ، فحذفت الثانية ؛ لأن بها حصل الثّقل ؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب .
ولا يجوز ثبوت همزة " أفعل " في شيء من ذلك إلا في ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ]
فَإِنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا{[510]} *** . . . . . . . . . . . . . . . .
وهمزة " يؤمنون " - وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفاً مجانساً نحو : " راس " و " بير " و " يومن " ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو : " إيمان " و " آمن " .
قال بعضهم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : " الذين يؤمنون " .
وإما أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصَّلاة والصدقة ؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ، وأصلها الصَّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام : " الصَّلاَة عِمَاد الدِّين ، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسْلاَم " {[511]} . أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة ، لقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] واختلف الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق :
الفرقة الأولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ، والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث .
أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً ، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء ، فالمراد به التصديق ؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صَلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة .
أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسَمَّى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ، أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ{[512]} ، وأبي الهذيل{[513]} ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد{[514]} .
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وهو قول أبي علي{[515]} وأبي هاشم{[516]} .
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [ اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد . ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد .
فالمؤمن عند الله كل من اجتنب ]{[517]} كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النّظام{[518]} ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها .
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلاّ إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة .
وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجُحُود والإنكار ؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب{[519]} .
والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه .
ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل .
الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللِّسان والقَلْب معاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :
الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين :
أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه{[520]} المعرفة ، فمنهم من فَسّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو كان علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم .
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال .
وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا ؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف .
وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم ، أو عالماً بذاته ، وبكونه مرئياً أو غير مرئي ، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان .
القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي{[521]} ، وأبي الحسن الأشعري{[522]} ، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس .
القول الثالث : قول جماعة من الصُّوفية : الإيمان إقرار باللسان ، وإخلاص بالقلب .
الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ ، حتى إن من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صَفْوَان{[523]} .
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان .
وحكى الكعبي{[524]} عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد .
ثانيهما : أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي .
الفرقة الرابعة الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :
الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدِّمشقي{[525]} ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل " غيلان " .
الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المُنَافق مؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع .
و " بالغيب " متعلّق ب " يؤمنون " ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل ، أو اسم المفعول ، وفي هذا الثاني نظر ؛ لأنه من " غاب " وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم مفعول حتى يقع المصدر موقعه ؟ إلا أن يقال : إنه واقع موقع اسم مفعول من " فَعَّلَ " مضعفاً متعدياً ، أي : المُغَيَّب ، وفيه بعد . وقال الزمخشري{[526]} : يجوز أن يكون مخففاً من " فَيْعِل " نحو : " هَيِّن " من " هَيْن " ، و " مَيِّت " من " مَيْت " . وفيه نظر ؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره ، فإنها سمعت مخففةً ومثقلةً ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا خاصّة . ويجوز أن تكون " الباء " للحال فيتعلّق بمحذوف أي : يؤمنون متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و " لغيب " حينئذ مصدر على بابه .
في قوله " يؤمنون بالغيب " قولان :
الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني{[527]} أن قوله : " يؤمنون بالغيب " صفة المؤمنين معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، قَالُوا : آمَنّا : وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِيْنِهِمْ قَالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ " .
نظيره قوله : { ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [ يوسف : 52 ] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين .
الثاني : وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل .
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم .
الأول : أن قوله : { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان المراد من قوله : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز .
الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب . أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور .
الثالث : لفظ " الغيب " إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحُضُور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته ، فقوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غَيْرُ جائز ؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل ؟
أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور .
والجواب عن الأول : أن قوله : " يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله بعد ذلك :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يتناول الإيمان ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ }
وعن الثاني : لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً .
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا ؟
قلنا : قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه .
أما الذي لا دليل عليه ، فهو سبحانه العالم به لا غيره .
وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة .
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور ، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته ، والله أعلم .
واختلفوا في المراد ب " الغيب " .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " الغيب - هاهنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك{[528]} مثل : الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيْزان " .
وقيل : الغيب هاهنا هو الله تعالى .
وقيل : القرآن{[529]} .
وقال زرُّ بن حبيش{[530]} ، وابن جريج : بالوحي{[531]} .
ونظيره : { أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ } [ النجم : 35 ] قال ابن كيسان : بالقدر .
وقال عبد الرحمان بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بيناً{[532]} لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب ، ثم قرأ : " الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " إلى قوله " المفلحون " .
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدِي المنتظر .
قال ابن الخطيب : " وتخصص المطلق من غير دليل باطل " .
قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وورش{[533]} : " يُومِنُونَ " ، بترك الهمزة .
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في { أَنبِئْهُم }
[ البقرة : 33 ] ، و{ يُنَبِّئُهُمُ } [ المائدة : 14 ] ، و{ نَبِّئْنَا } [ يوسف : 36 ] .
ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو : { وَنَبِّئْهُمْ } [ الحجر : 51 ] ، و " أَنبئْهُمْ " ، و{ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] ، و{ إِن نَّشَأْ } [ الشعراء : 4 ] ونحوها ، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو : { مُّؤْصَدَةٌ } [ البلد : 20 ] ، و{ وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] .
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت " فاء " الفعل ، إلا
{ وَتُؤْوِي } [ الأحزاب : 51 ] و{ تُؤْوِيهِ } [ المعارج : 13 ] ، ولا يترك من عين الفعل إلا { الرُّؤْيَا } [ الإسراء : 60 ] وبابه ، أو ما كان على وزن " فعل " .
و " يقيمون " عطف على " يؤمنون " فهو صلةٌ وعائد .
وأصله : يؤقومون حذفت همزة " أفعل " ؛ لوقوعها بعد حرف المُضَارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ، ففعل فيه ما فعل في " مستقيم " ، وقد تقدم في الفاتحة . ومعنى " يقيمون " : يديمون ، أو يظهرون ، قال تعالى : { عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } [ المعارج : 23 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]
أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الطْ *** طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعا{[534]}
وَإِذَا يُقَالُ : أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا *** حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوْقَ طِعَانِ{[535]}
من قامت السّوق : إذا أنفقت ؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق .
وفي ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها ، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور ، أو يكون عبارةً عن أدائها ، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت . وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } [ البقرة : 213 ] يعني : الكتب .
و " الصّلاة " مفعول به ، ووزنها : " فَعَلَة " ، ولامها واو ، لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، واشتقاقها من : " الصَّلَوَيْنِ " وهما عِرْقَان في الْوِرْكَيْنِ مفترقان من " الصَّلاَ " ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجْبِ الذَّنَبِ ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ ، ومنه " المُصَلِّي " في حَلْبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند " صَلْوَي " السابق . ذكره الزَّمخشري .
قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة ؛ وذلك لأن لفظ " الصلاة " من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل ، ولو جوزنا أن [ يقال ]{[536]} : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر ، وكان مراد الله - تعالى - تلك المعاني ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا ، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل .
وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام - بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شَكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور .
وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا .
و " الصَّلاة " لغة : الدّعاءُ : [ ومنه قول الشاعر ] [ البسيط ]
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً *** يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي *** يَوْماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا{[537]}
أي : مثل الَّذي دعوت ، ومثله : [ الطويل ]
لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا *** وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمزَمَا{[538]}
وفي الشرع : هذه العبادة المعروفة .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : " صَلِيَ بِالنَّارِ " أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : { تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } [ الغاشية : 4 ] قال : [ الخفيف ]
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ *** هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ{[539]}
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار ، أي : قَوَّمْتُهُ بالصِّلاَء - وهو حَرّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه ؛ قال : [ الوافر ]
فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ *** فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ{[540]}
ذكر ذلك الخَارزنجِيّ{[541]} ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن " الصلاة " من ذوات الواو ، وهذا من الياء . وقيل في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ }
[ الأحزاب : 56 ] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار ، ومن المؤمنين الدعاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } مما : جاء ومَجْرور متعلّق ب " ينفقون " و " ينفقون " معطوف على الصِّلة قبله ، و " ما " المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون اسماً بمعنى " الذي " ، و " رزقناهم " صِلَتُهَا ، والعائد محذوف .
قال أبو البقاء : " تقديره رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه " .
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال ؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه ؛ لأنّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه ، نصُّوا عليه ، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدِّلالة على ذلك الغرض .
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله ؛ ويكون كقوله : [ الطويل ]
فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ *** لِضَغْمِهِمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا{[542]}
وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي .
وعن الثَّاني : بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْس الحاصل ، ولا لبس هنا .
الثَّاني : يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً .
الثَّالث : أن تكون مصدريةً ، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي : مرزوقاً .
وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال : " لأنَّ الفعل لا يتفق " ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد به المفعول . والرزق لغة : العَطَاء ، وهو مصدر ؛ قال تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] وقال الشَّاعر : [ البسيط ]
رُزِقْتَ مَالاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ *** إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا{[543]}
وقيل : يجوز أن يكون " فِعْلاً " بمعنى " مفعول " نحو : " ذِبْح " ، وَ " رِعْي " بمعنى : " مَذْبوح " ، و " مَرْعيّ " .
وقيل : " الرَّزْق " - بالفَتْح - مصدر ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد .
وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره .
ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا } [ المنافقون : 10 ] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه .
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً ؛ لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة ، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به ، والعقل لي بمملوك ، وأيضاً البهيمة يحصل له رزْقٌ ولا يكون لها ملك . وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاع بالشيء ، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به .
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ .
واعلم أن المعتزلة لما فَسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً . وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً .
قال ابن الخطيب{[544]} : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له .
الثَّاني : أنه تعالى قال : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً .
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب ، والسُّنة ، والمعنى :
أحدها : قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .
ثانياً : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا } [ المنافقون : 10 ] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه ]{[545]} ، بل يجب عليه رَدّه ، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً .
ثالثها : قوله تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ أآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] فبين أن من حرم رزق الله ، فهو مُفْتَرٍ على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً .
وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب " الفرائض " بإسناده عن صفوان بن أمية{[546]} قال : " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ{[547]} فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة ، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي ، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ . فقال عليه الصّلاة والسلام : " لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [ رزقاً ]{[548]} طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلهِ ، أَمَا وإنك لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً " " {[549]} .
وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من الانتفاع به ، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا أمر بمنعهم منه .
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله ، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك ؛ لما فيه من سُوءِ الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكِلاَب والخَنَازير ، وقال : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان الكُفّار أيضاً من العباد ، وكذلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً .
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا ؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : " فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه " صريح في أن الرزق قد يكون حراماً .
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة ، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله أعلم .
و " نفق " الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ " نفذ " " نَفَشَ " " نَفَحَ " " نفخ " " نفض " " نفل " .
و " نفق " الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة : ماتت نُفُوقاً ، والنفقة : اسم المُنْفَق .
وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أخر :
بيان الجنس : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] .
والتعليل : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ }
والبدل : { بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] .
والمُجَاوزة : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] .
وانتهاء الغاية : " قربت منه " .
والاستعلاء { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] .
والفصل : { يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 ] .
وموافقة " الباء " { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } [ فاطر : 40 ] .
والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب . واشترط الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئاً . و " الهمزة " في " أنفق " للتَّعدية ، وحذفت من " ينفقون " لما تقدم في " يؤمنون " .
فصل في قوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون "
قال ابن الخَطِيبْ : في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فوائد :
إحداها : أدخل " من " للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه .
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ ، كأنه قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :
أحدها : الزكاة وهي قوله تعالى : { يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] .
وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته .
وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ } ، وأراد به الصدقة ؛ لقوله بعد : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح .