قوله : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } .
يجوز في " ذلك " أن تكون مبتدأ ثانياً ، و " الكتاب " خبره ، والجملة خبر " الم ، وأغنى الربط باسم الإشَارة ، ويجوز أن يكون " الم " مبتدأ .
و " ذلك " خبره ، و " الكتاب " صفة ل " ذلك " ، أو بدل منه ، أو عطف بيان ، وأن يكون " الم " مبتدأ ، و " ذلك " مبتدأ ثانٍ ، و " الكتاب " : إما صفة له ، أو بدل منه ، أو عطف بيان له .
و " لا ريب فيه " [ خبر ]{[452]} عن المبتدأ الثاني ، وهو خبره خبر عن الأول .
ويجوز أن يكون " الم " خبر مبتدأه مضمر ، تقديره : " هذا الم " ، فتكون جملة مستقلة بنفسها ، ويكون " ذلك " مبتدأ ثانياً ، و " الكتاب " خبره .
ويجوز أن يكون صفة له ، أو بدلاً ، أو بياناً ، و " لا ريب فيه " هو الخبر عن " ذلك " أو يكون " الكتاب " خبراً ل " ذلك " ، و " لا ريب فيه " خبر ثان ، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر ، وأحدهما جملة ، لكن الظاهر جوازه ؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } [ طه : 20 ] ، إذا قيل بأن " تسعى " خبر .
وأما إن جُعِلَ صفة فلا{[453]} .
و " ذلك " اسم إشارة : الاسم منه " ذا " ، و " اللاَّم " للبعد ، و " الكاف " للخطاب ، ولها ثلاث رُتَب :
دُنْيَا : ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو : " ذا وذي " و " هذا وهذي " .
وَوُسْطَى : ولها المتّصل بحرف الخطاب ، نحو " ذاك وذيك وتيك " .
وقُصْوَى : ولها المتّصل ب " اللام " و " الكاف " نحو : " ذلك وتلك " .
ولا يجوز أن تأتي ب " اللام " إلاّ مع " الكاف " ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع " اللاَّم " ، فيمتنع للطول .
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين : دُنْيَا وغيرها{[454]} . واختلف النحويون في " ذا " هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد ؟
الأول قول البصريين ، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء ، فيكون من باب " حيي " ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب " غويت " ثم حذفت لامه تخفيفاً ، وقلبت العين ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، وهذا كله على سبيل التّمرين .
وأيًّا فهذا مبني ، والمبني لا يدخله تصريف ، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه : [ الطويل ]
أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ *** تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا{[455]}
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير إليه بإشارة البعيد .
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام .
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ .
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد ، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً ، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّاً وتحريراً لقول ما ذكرته لك . وقال الأصَمّ وابن كيْسَان{[456]} : إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة " البقرة " سوراً كذب بها المشركون ، ثم أنزل سورة " البقرة " فقال : " ذلك الكتاب " يعني ما تقدم " البقرة " من السور لا شك فيه .
قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر ، لكن لا نسلّم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد .
بيانه : أن " ذلك " و " هذا " حرف إشارة ، وأصلهما " ذا " لأنه حرف الإشارة ، قال تعالى : { مَّن ذَا الَّذِي } [ البقرة : 245 ] .
ومعنى " ها " تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي : تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه ، فإنه حاضر معك{[457]} بحيث تَرَاه ، وقد تدخل " الكاف " على " ذَا " للمخاطبة ، و " اللام " لتأكيد معنى الإشارة ، فقيل : " ذلك " ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه ، فهذا يدلّ على أن لفظة " ذلك " لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع ، بل اختص في العُرْف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها ، فصارت كالدابة ، فإنها مختصة في العرف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض .
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البُعْد ، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر .
قال تعالى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } إلى قوله : { وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ } [ ص : 45-48 ] ثم قال : { هَذَا ذِكْرٌ } [ ص : 49 ] وقال : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ } [ ص : 52-53 ] .
وقال : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] .
وقال تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } [ النازعات : 24-25 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } [ الأنبياء : 105 ] وقال تعالى : { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً } [ الأنبياء : 106 ] .
وقال : { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } [ البقرة : 73 ] [ أي هكذا يحيي الموتى ]{[458]} .
وقال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى } [ طه : 18 ] أي ما هذه التي بيمينك .
و " الكتاب " في الأصل مصدر ؛ قال تعالى : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] وقد يراد به المكتوب ، قال الشاعر : [ الطويل ]
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً *** أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا{[459]}
تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ *** كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ{[460]}
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ ، ومنه كتيبة الجَيْش ، وكَتَبْتُ القربة ، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها ، وَالكُتَبة -بضم " الكاف " الخرزة ، والجمع كَتَب ، قال : [ البسيط ]
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا *** مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ{[461]}
وكَتَبْتُ الدَّابة [ إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ ]{[462]} قال الشاعر : [ البسيط ]
لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ *** عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِأسْيَارِ{[463]}
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض .
قال ابن الخطيب : " واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن ، قال تبارك وتعالى :{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ }
والكتاب جاء في القرآن على وجوه :
أحدها : الفرض { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [ البقرة : 178 ] ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] ، { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان : { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الصافات : 157 ] أي : بِبُرْهانكم وحجّتكم .
ثالثها : الأَجَل : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أي : أَجَل .
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد عبده : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النور : 33 ] وهذا المصدر " فِعَال " بمعنى " المُفَاعلة " كالجِدَال والخِصَام والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة .
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن ، وله أسماء :
وثانيها : القُرْآن : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً } [ الزخرف : 3 ] ، { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] .
وثالثها : الفُرْقَان : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } [ الفرقان : 1 ] .
ورابعها : الذِّكْر ، والتَّذْكِرَة ، والذِّكْرَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] ، { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] وقوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] .
وخامسها : التَّنْزِيل : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 192 ] .
وسادسها : الحديث : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] .
وسابعها : المَوْعِظَة : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] .
وثامنها : الحُكْم ، والحِكْمَة ، والحَكِيم ، والمُحْكَم : { وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [ الرعد : 37 ] ، { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5 ] ، { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ يس : 1-2 ] ، { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] .
وتاسعها : الشِّفَاء : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء : 82 ] .
وعاشرها : الهُدَى ، والهَادِي { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ،
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ،
{ قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } [ الجن : 1-2 ] .
" الصِّرَاط المستقيم ، والعِصْمَة ، والرَّحْمَة ، والرُّوح ، والقَصَص ، والبَيَان ، والتِّبْيَان ، والمُبِين ، والبَصَائر ، والفَصْلُ ، والنُّجُوم ، والمَثَاني ، والنّعْمَة ، والبُرْهَان ، والبَشِير ، والنَّذِير ، والقَيِّم ، والمُهَيْمِن ، والنور ، والحق ، والعزيز ، والكريم ، والعظيم ، والمبارك " .
قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } .
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه .
قال بعضهم : هو خبر بمعنى النّهي ، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .
قرأ{[464]} ابن كثير : " فِيهِ " بالإشباع في الوَصْلِ ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن ، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء ، وإنْ كان غيرها يشبعها بالضم واواً ، ووافقه حفص{[465]} في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] فأشبعه .
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، و " لا " نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها . " إِنَّ " ، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به ، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف ، وهو " من " الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
فَقَامَ يَذُودُ النَّاس عَنْهَا بِسَيْفِهِ *** فَقَالَ أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ{[466]}
وقيل : بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب . وزعم الزَّجَّاج أن حركة " لاَ رَجُلَ " ونَحْوِه حركة إعراب ، وإنما حذف التنوين تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل في الضرورة كقوله : [ الوافر ]
أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً *** يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ{[467]}
ولا دليل له لأن التقدير : أَلاَ تَرَوْنَنِي رَجُلاً ؟
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو : " لا خيراً من زيد " ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة ، وأما نحو قوله : [ الطويل ]
تُبَكِّي عَلَى زيْدٍ وَلاَ زَيْدَ مِثْلُهُ *** بَرِيءٌ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ{[468]}
أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ *** نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي الْبِلاَدِ{[469]}
لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ{[470]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ ، إذا هلك كِسْرَى ، فلا كسرى بَعْدَه " {[471]} فمؤوَّل .
و " رَيْبَ " اسمها ، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو " فيه " ، إلاَّ أن بني " تميم " لا تكاد تذكر خبرها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريب كائن ، ويكون الوَقْفُ على " ريب " حينئذ تامًّا ، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها ، قالوا : " لا عليك " أي : لا بأس عليك .
ومذهب سيبويه رحمه الله : أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء ، ولا عمل لها في الخبر .
ومذهب الأخفش : أن اسمها في مَحَلّ رفع ، وهي عاملة في الخبر .
ولها أحكامٌ كثيرة ، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو{[472]} .
واعلم أن " لا " لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي ، وهي فيه على قسمين :
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم ، وقسم تنفي فيه الوحدة ، وتعمل حينئذ عمل " ليس " ، ولها قسم آخر ، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله : { وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 ] .
و " الرَّيْب " : الشّك مع تهمة ؛ قال في ذلك : [ الخفيف ]
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ *** إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ{[473]}
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري : " قلق النفس واضطرابها " .
ومنه الحديث : " دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبك " {[474]} .
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال : " لاَ يُرِبهُ أَحَدٌ بشيءٍ " .
فليس قول من قال : " الرَّيب الشك مطلقاً " بجيّد ، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم .
وقال بعضهم : في " الرّيب " ثلاثة معانٍ :
أحدها : الشّك ؛ قال ابن الزِّبَعْرَى{[475]} : [ الخفيف ]
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[476]}
وثانيها : التُّهمةُ ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ{[477]} : [ الطويل ]
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي *** فَقُلْتُ : كِلاَنا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ{[478]}
وثالثها : الحاجات ؛ قال : [ الوافر ]
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ *** وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا{[479]}
قال ابن الخطيب{[480]} : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، كأنه ظن سوء ، تقول : رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً .
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : " ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي : حوادثه ، قال تعالى : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ ، كقول الشاعر : [ الوافر ]
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[481]}
قلنا : هذان يرجعان إلى معنى الشك ، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه : نفي كونه مَظَنّةً للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته ، ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] .
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " وفي موضع آخر : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب .
ولو قلت : " لا فيه ريب " لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا هاهنا ، كما قصد في قوله تعالى
{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا . فإن قيل : من أين يدلّ قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على نفي الريب بالكلية ؟ قلنا : القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن قوله : " لا ريب " نفي لماهيّة الريب ؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مُنَاقض نفي الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : " لا إله إلا الله " نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى .
وقرأ{[482]} أبو الشعثاء{[483]} : " لاَ رَيْبُ فِيهِ " بالرفع ، وهو نقيض لقولنا : " ريب فيه " ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ، فيتحقق التناقض .
والوقف على " فيه " هو المشهور .
وعن نافع وعاصم{[484]} أنهما وَقَفَا على " ريب " ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : { لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : " لا بأس " .
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه .
الجواب : [ المراد ]{[485]} أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
أحدها : أن النفي كونه متعلقاً للريب ، المعنى : أنه منعه من الدلالة ، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه ، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب ؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر ، فريبه غير معتدٍّ به .
والثاني : أنه مخصوص ، والمعنى : لا ريب فيه عند المؤمنين .
والثالث : أنه خبر معناه النهي . والأول أحسن .
قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } . يجوز فيه عدة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا : إن خبر " لا " محذوف .
وإن قلنا : " فيه " خبرها ، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر " لا " ، تقديره : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو هدى ، وأن يكون خبراً ثانياً ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " صفةً أو بدلاً ، أو بياناً ، و " لا ريب " خبر أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " خبراً أول ، و " لا ريب " ، خبراً ثانياً ، وأن يكون منصوباً على الحال من " ذلك " ، أو من " الكتاب " ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في " فيه " ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلِ ، وجعله حالاً مما تقدم : إما على المُبَالغة ، كأنه نفس الهُدَى ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا هُدَى ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً ، أو صفة ، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة ، أرجحها الأول .
وأجازوا أن يكون " فيه " صفةً ل " ريب " ، فيتعلّق بمحذوف ، وأن يكون متعلقاً ب " ريب " ، وفيه إشكال ؛ لأنه يصير مطولاً ، واسم " لا " إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا دَلّ عليه " ريب " لا لنفس " ريب " .
وقد تقدّم معنى " الهدى " عند قوله تبارك وتعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] .
و " هُدًى " مصدر على وزن " فُعَل " قالوا : ولم يجئ من هذا الوزن في المَصَادر إلا " سُرًى " و " بُكًى " و " هُدًى " ، وقد جاء غيرها ، وهو " لَقِيتُهُ لُقًى " ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكِ وَلَمْ أَزِدْ *** بحَمْدِ الَّذِي أَعْطَاكِ حِلْماً وَلاَ عَقْلا{[486]}
و " الهدى " فيه لغتان : التذكير ، ولم يذكر اللّحْياني{[487]} غيره .
وقال الفراء : بعض بني أسد يؤنثه ، فيقولون : هذه هدى .
و " في " معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : " زيد في الدار " {[488]} ، { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] ولها معان آخر :
المصاحبة : نحو : { ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ } [ الأعراف : 38 ] .
والتعليل : " إن امرأة دَخَلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ " {[489]} وموافقة " على " : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع ]{[490]} ، والباء : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي : بسببه .
والمقايسة نحو قوله تعالى : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] .
و " الهاء " في " فيه " أصلها الضم كما تقدم من أن " هاء " الكناية أصلها الضم ، فإن تقدمها ياء ساكنة ، أو كسرة كسرها غير الحجازيين ، وقد قرأ حمزة : " لأَهْلِهُ امْكُثُوا " وحفص في : " عَاهَدَ عَلَيْهُ الله " [ الفتح : 10 ] ، { وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ } [ الكهف : 63 ] بلغة أهل الحِجَاز ، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو : " فيه " و " منه " - الاختلاس ، ويجوز الإشْبَاع ، وبه قرأ ابن كثير{[491]} ، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ، وقد تختلس وتسكن ، وقرئ ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى .
و " للمتقين " جارّ ومجرور متعلّق ب " هدى " .
وقيل : صفة ل " هدى " ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحله حينئذ : إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه ، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين .
والأحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها ، ف " الم " جملة إن قيل : إنها خبر مبتدأ مضمر ، و " ذلك الكتاب " جملة ، و " لا ريب " جملة ، و " فيه هدى " جملة ، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل ؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف .
قال الزمخشري : " وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق . [ وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق ]{[492]} بعض ، والثانية متحدة بالأولى ، وهلم جَرّاً إلى الثالثة والرابعة .
بيانه : أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال ، فكان تقريراً لجهة التحدي . ثم نفى عنه أن يتشبث{[493]} به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله .
ثم أخبر عنه بأنه " هدى للمتقين " ، فقرر بذلك كونه يقيناً ، لا يحوم الشّك حوله ، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [ من ]{[494]} نُكْتَةٍ ذات جَزَالة : ففي الأولى الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه .
وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة .
وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف .
وفي الثالثة ما في تقديم " الريب " على الظرف .
وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكراً .
" المتقين " جمع " مُتَّقٍ " ، وأصله : مُتَّقْيِينَ بياءينِ ، الأولى : لام الكلمة ، والثانية علامة الجمع ، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة ، وهي الياء الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحذف إحداهما وهي الأولى .
و " متقٍ " من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل من الوِقَايَةِ ، إلا أنه يطرد في الواو والياء إذا كانتا فاءين ، ووقعت بعدهما " تاء " الافتعال أن يبدلا " تاء " نحو : " اتَّعَدَ " من الوَعْدِ ، و " اتَّسَرَ " من اليُسْرِ . وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ ، قالوا : " اتَّزَرَ " و " اتَّكَلَ " من الإِزَارِ ، والأَكْلِ .
وفعل الفاعل بنفسه نحو : " اضطرب " .
ومطاوعة " أَفْعَل " نحو : " انتصف " .
ومطاوعة " فَعَّل " نحو : عمّمته فاعتمّ .
وموافقة " تَفَاعَلَ " و " تَفَعَّل " و " اسْتَفْعَل " نحو : احتور واقتسم واعتصم ، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم .
وموافقة المجرد ، نحو " اقتدر " بمعنى : قَدَرَ .
والإغناء عنه نحو : " اسْتَلَم{[495]} الحجر " ، لم يُلْفَظْ له بمجرد .
و " الوقاية " : فرط الصيانة ، وشدة الاحتراس من المكروه ، ومنه " فرس وَاقٍ " : إذا كان يقي حافِرُه أدنى شيء يصيبه .
وقيل : هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام .
وفي الحديث : " التَّقِيُّ مُلْجَمٌ " .
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ *** فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِاليَدِ{[496]}
فَأَلْقَتْ قِنَاعاً دُونَهُ الشَّمْسُ واتَّقَتْ *** بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ{[497]}
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الهدى " في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى :
الأول : بمعنى " البَيَان " قال تعالى : { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] أي : على بيان ، ومثله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] أي : لتبين ، وقوله تبارك وتعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بَيّنّا لهم .
الثاني : الهُدَى : دين الإسلام ، قال تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } [ آل عمران : 73 ] أي : دين الحق هو دين الله .
وقوله : { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى } [ الحج : 67 ] أي : دين الحق .
الثالث : بمعنى " المَعْرِفَة " قال تعالى : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] أي : يعرفون ، وقوله تعالى : { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 41 ] أي : أتعرف .
الرابع : بمعنى " الرسول " قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] أي : رسول .
الخامس : بمعنى " الرشاد " قال تعالى : { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } [ ص : 22 ] أي أرشدنا .
وقوله : { عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ القصص : 22 ] .
وقوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ } [ الفاتحة : 6 ] .
السادس : بمعنى : " القرآن " قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] أي : القرآن .
السابع : بمعنى : بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي } [ الشورى : 52 ] .
الثامن : بمعنى " شرح الصدور " قال تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .
التاسع : التوراة ، قال تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } [ غافر : 53 ] يعني : التوراة .
العاشر : " الجنة " قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم } [ يونس : 9 ] أي : يدخلهم الجنة .
الحادي عشر : " حج البيت " قال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] أي الحج .
الثاني عشر : " الصلاح " قال تَعَالى : { وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [ يوسف : 52 ] أي : لا يصلح .
الثالث عشر : " التوبة " قال تعالى : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
قال ابن الخطيب{[498]} " رضي الله تعالى عنه " : الهُدَى عبارة عن الدلالة .
وقال صاحب " الكشاف " : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية .
وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال ، وقد ثبت الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء . واحتج صاحب " الكشَّاف " بأمور ثلاثة :
[ أوّلها ] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى ، قال تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وثانيها : يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً ؛ لاحتمال أنه هدي ، فلم يَهْتَدِ .
وثالثها : أن " اهتدى " مطاوع " هَدَى " يقال : هَدَيْتُه فَاهْتَدَى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، فكما أن الانكسار والانقطاع لاَزِمَانِ للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم " الهدى " .
والجواب عن الأوَّلِ : أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل " الهدى " هو " الإضلال " {[499]} ومقابل " الاهتداء " هو " الضلال " فجعل " الهدى " في مقابلة " الضلال " ممتنع .
وعن الثاني : المنتفع{[500]} بالهدى سمي مهدياً ؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم .
وعن الثالث : أن{[501]} الائتمار مُطَاوع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار ، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد .
ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى ، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقَى ، والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش{[502]} ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين .
وفي الحديث : " كان إذا احْمَرّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم " {[503]} .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاه حاجزاً بينه وبين العذاب . وقال عمر بن الخَطّاب لكعب الأحبار : " حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك التَّقوى " . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير{[504]} إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقْوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ]{[505]} بأن يكون متقياً في أمور الدنيا بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدّين ، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَّغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد .
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟
فروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأْسَ به حَذَراً مما به بَأْسُ " {[506]} وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليه ، ويرجون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ؛ كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } [ الحجرات : 3 ] ، { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ }
[ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ } [ الأعراف : 96 ] ، { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 52 ] .
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ } [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة الإخلاص كقوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص القلوب .
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتّقين فقط ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي ؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين ؟
والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً دلالة للكافرين ؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال :
{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] وقال :
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس : 11 ] .
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه ؛ لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصف القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه ، ولأنا نرى{[507]} جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ، وبعضها صريح في القدر ؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلاّ بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون هدى ؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين{[508]} - وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى .
السؤال الثالث : كل ما يتوقّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته ، وفي معرفة النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق ؟
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي{[509]} العموم ، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال