اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة مدنية

مائتان وستة وثمانون آية

نزلت في مُدد شتى .

وقيل : هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى : { واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] فإنها آخر آية نزلت ، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع ب " منى " ، وآيات الرّبا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن .

قال خالد بن معدان{[1]} : ويقال لها : فُسطاط القرآن .

وتعلمها عمر-رضي الله عنه- بفقهها ، وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة ، وابنه عبد الله في ثماني سنين .

قال ابن العربي رضي الله عنه : " سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر " .

وهي مائتان وستة وثمانون آية ، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف . عن سهل بن سعد{[2]} -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال " {[3]} .

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- بعثا ثم أتبعهم بسفر ، فجاء إنسان منهم فقال : " ما معك من القرآن ؟ " حتى أتى على أحدثهم سنًّا فقال له : " ما معك من القرآن ؟ " قال : " كذا وكذا ، وسورة البقرة فقال : " اخرُجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا : يا رسول الله هو أحدثنا فقال : " معه سورة البقرة " {[4]} .

إن قيل : إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجِّي ، بمعنى أن الميم اسم ل " مَهْ " ، والعين ل " عَهْ " ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامكم ، ولكن عجزتم عنه ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدة ، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو : " واحد اثنان " ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة ، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال :

أحدها : ما تقدم .

والثاني : أنها معربة ، بمعنى أنها صالحة للإعراب ، وإنما فات شرطه وهو التركيب ، وإليه مال الزمخشري رحمه الله .

والثالث : أنها موقوفة أي لا معربة ولا مبنيةٌ .

أو إن قيل : إنها أسماء السور المفتتحة بها ، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها ، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله : الميم من " عليهم " ، والصاد من " صادق " ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر :

فالرفع على أحد وجهين : إما بكونها مبتدأ ، وإما بكونها خبراً كما سيأتي بيانه مفصلاً إن شاء الله تعالى .

والنصب على أحد وجهين أيضاً : إما بإضمار فعلٍ لائقٍ ، تقديره : اقرءوا : " الم " ، وإما بإسقاط حرف القسم ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]

إِذا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ *** فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّرِيدُ{[430]}

يريد : وأَمَانَةِ اللهِ .

وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها .

وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه : أنّ القرآن في : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ ص : 1 ] والقلم في

{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [ القلم : 1 ] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم ، أو للعطف ، والأول يلزم منه محذور ، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال : [ وهم يستكرهون ]{[431]} ذلك .

والثاني ممنوع ، لظهور الجَرّ فيما بعدها ، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب ، وهو رَدّ واضح ، إلا أن يقال : هي في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [ فيما بعده ]{[432]} كالموضعين المتقدمين ؛ { حم وَالْكِتَابِ } [ الزخرف : 1-2 ] ، و{ ق وَالْقُرْآنِ } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع ، فالرد لازم كله .

والجَرّ من وجهٍ واحدٍ ، وهو أنها مقسم بها ، حذف حرف القسم ، وبقي عمله كقولهم : " اللهِ لأفعلنَّ " أجاز ذلك الزمخشري ، وأبو البقاء رحمهما الله ، وهذا ضعيف ؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها{[433]} فيه غيرها .

فتخلص مما تقدم أن في " الم " ونحوها ستة أوجه وهي : أنها لا محل لها من الإعراب ، أَوْ لَهَا محل ، وهو الرفع بالابتداء ، أو الخبر .

والنَّصْب بإضمار فعل ، أو حذف حرف القسم .

والجَرّ بإضمار حرف القسم{[434]} .

فصل في الحروف المقطعة

سئل الشعبي{[435]} - رحمه الله تعالى - عن هذه الحروف فقال : سرّ الله ، فلا تطلبوه .

وروى أبو ظِبْيَانَ{[436]} عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال : عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا ، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سرّ القرآن ؛ فنحن نؤمن بظاهرها ، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى .

قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : " في كل كتاب سِرّ ، وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور " .

ونقل ابنُ الخَطِيْبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق ، واحتجوا عليه بآيات منها :

قوله تبارك وتعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] بالتدُّبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم ، فكيف يأمر بالتدبّر فيه .

وكذا قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] فكيف يأمر بالتدبُّر لمعرفة نفي التَّنَاقض والاختلاف ، وهو غير مفهوم للخلق ؟

ومنها قوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 193- 195 ] ، فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول - عليه السلام - منذراً به ، وأيضاً قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } يدلّ على أنه نازلٌ بلغة العَرَبِ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوماً .

ومنها قوله تعالى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] ، والاستنباط منه لا يمكن إلاّ مع الإحاطة بمعناه .

ومنها قوله تعالى : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] .

وقوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .

وقوله تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] ، { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وغير المعلوم لا يكون هُدًى .

وقوله تعالى : { وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم .

وقوله تبارك وتعالى : { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] .

وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم ؟

وقوله تعالى : { هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } [ إبراهيم : 52 ] ، فيكف يكون بلاغاً ؟ وكيف يقع به الإنذار ، مع أنه غير معلوم ؟

وقال في آخر الآية : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ، وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً .

وقوله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] فكيف يكون هاديا ، مع أنه غير معلوم ، ومن الأخبار قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " إنِّي تَركْتُ فيكم ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ به لن تَضِلُّوا بَعْدِي أبداً كتابَ الله وسُنَّتي " {[437]} فكيف يمكن التمسُّك به وهو غير معلوم ؟

وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه -عليه الصلاة والسّلام- قال : " عليكم بكتاب الله - فيه نَبَأُ ما قبلكم ، وخبر مَنْ بَعْدَكم ، وحُكْم ما بينكم هو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ ، من تركه من جَبَّار قَصَمَهُ الله تعالى . ومن اتَّبَعَ الهدى في غيره أضَلّه الله - تعالى - هو حَبْلُ الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصِّراط المستقيمُ ، هو الذي لا تزيغُ به الأهواء ، ولا تشبع به العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرَّد ولا تنقضي عَجَائبه ، مَنْ قَالَ به صَدَقَ ، ومن حكم به عَدَل ، ومن خاصم به فَلَج ، ومن دَعَا إليه هُدِيَ إلى صِرَاط مستقيم " {[438]} .

ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العِلْم إلاّ به لكانت المُخَاطبة به نحو مُخَاطبة العرب باللّغة الزنجية ، ولما لم يَجُزْ ذلك فكذا هذا .

وأيضاً المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المُخَاطبة عبثاً وسفهاً ، وهو لا يليق بالحكيم .

وأيضاً أنَّ التَّحدِّي وقع بالقرآن ، وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التَّحدِّي به .

واحتجّ مخالفوهم بالآية ، والخَبَرِ ، والمعقول .

أما الآية فهو أن المُتشَابه من القرآن ، وأنه غير معلوم ؛ لقوله تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] والوقف هاهنا ، لوجوه :

أحدها : أن قوله تَعَالَى : " والراسخون في العلم " لو كان معطوفاً على قوله تعالى " إِلاَّ الله " لبقي قوله : " يقولون آمنا به " منقطعاً عنه ، وإنه غير جائزٍ ؛ لأنه لا يقال : إنّه حال ، لأنا نقول : فحينئذ يرجع إلى كُلّ ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وهذا كفر .

وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنّهم لما عرفوه بالدّلالة لم يكن الإيمان به إلاّ كالإيمان بالمُحْكَم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مَدْحٍ .

وثالثها : أن تأويلها{[439]} كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذمًّا ، لكن قد جعله ذمًّا حيث قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : " إنَّ من العلم كهيئة المَكْنُون لا يعلمه إلاّ العُلَماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرّة بالله " {[440]} .

ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقًّا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم " {[441]} .

وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان : منها ما يعرف وَجْه الحكمة فيه على الجُمْلة بعقولنا كالصَّلاة والزكاة والصَّوم ، فإنَّ الصَّلاة تضرُّع محضٌ ، وتواضعُ للخالق ، والزكاة سَعْي في دَفْعِ حاجة الفقير ، والصّوم سعي في كسر الشهوة .

ومنها ما لا يعرف وَجْهُ الحكمة فيها على الجملة بعقولنا كأفعال الحَجّ في رَمْيِ الجَمَرَات ، والسَّعي بين الصفا والمروة ، والرَّمل ، والاضْطِبَاع .

ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول ، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني ؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول ، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم ، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه .

أما الطاعة في النوع الثاني ، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال ، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [ الأمر ] كذلك في الأقوال ؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارةً بما لا نقف على معناه ، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم .

القول الثَّاني : قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومةٌ ، واختلفوا فيه ، وذكروا وجوهاً :

الأوّل : أنها أسماء السّور ، وهو قول أكثر المتكلّمين ، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى .

قال القَفّال - رحمه الله تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب " لام " : والد حارثة بن لام الطَّائي ، وكقولهم للنَّخاس : " صاد " ، وللنقد : " عين " ، وللسحاب : " غين " .

وقالوا : جبل " قاف " ، وسموا الحوت : " نوناً " .

الثاني : أنها أسماء الله تَعَالى ، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول : يا حم عسق .

الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى .

قال سعيد بن جبير رحمه الله : قوله : " الر ، حم ، ونون " مجموعها هو اسم الرحمان ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي .

الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكَلْبِيّ{[442]} - رحمه الله تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم .

الخامس : أن كلّ واحد منها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته .

قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في " الم " : " الألف إشارة إلى أنه [ أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، " واللام " إشارة إلى أنه لطيف ، " والميم " إشارة إلى أنه ]{[443]} مَلِك مَجِيد مَنَّان " .

وقال في " كهيعص " : إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه ، " والكاف " يدل على كونه كافياً ، " والهاء " على كونه هادياً ، " والعين " على العالم ، " والصاد " على الصادق . وذكر ابن جريرٍ عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل " الكاف " على الكبير والكريم ، " والياء " على أن الله يجير ، " والعين " على أن الله العزيز والعدل .

والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك .

السادس : بعضها يدلّ على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصّفات .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في " الم " أنا الله أعلم ، وفي " المص " أنا الله أفصل ، وفي " الر " أنا الله أرى ، وهذه رواية أبي صالح ، وسعيد بن جبير عنه .

قال الزَّجَّاج : " وهذا أحسن ، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم : [ مشطور السريع ]

قُلْنَا لَهَا : قِفِي لَنَا قََالَتْ : قَافْ *** . . …………… . . {[444]}

وأنشد سيبويه لغيلان : [ الرجز ]

نَادَوْهُمْ أَنَ الْجِمُوا ، أَلاَ تَا *** قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا{[445]}

أي : لا تَرْكَبُوا ، قالوا : بَلَى فَارْكَبُوا .

وأنشد قُطْرب : [ الرجز ]

جَارِيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أَنْ تَا *** تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا{[446]}

السّابع : كلّ واحد منها يدلّ على صفات الأفعال ، ف " الألف " آلاَؤه ، و " اللاّم " لُطْفه ، و " الميم " مَجْدُه ، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي .

الثَّامن : بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى .

قال الضَّحاك : " الألف " من الله ، و " اللام " من جبريل ، و " الميم " من محمد عليه الصَّلاة والسلام [ أَي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام ]{[447]} .

التاسع : ما قاله المبرّد : واختاره جمعٌ عظيم من المحقّقين - أنّ الله - تعالى - إنَّمَا ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أن الرَّسول - عليه الصَّلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن ، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ ، أو بسورة ، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفَصَاحة ، فكان يجب أن تأتوا بِمِثْلِ هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِنْدِ الله لا من البَشَرِ .

العاشر : قول أبي روق{[448]} وقُطْرب : إن الكُفَّار لما قالوا :

{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه ، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتهم ، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف ، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القُرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم ، وطريقاً إلى انتفاعهم ، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول .

الحادي عشر : قول أبي العَالِيَةِ " إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين " .

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَتْلُو سورة البقرة { الم ذَلِكَ الكِتَابُ } ، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب{[449]} ، وكَعْب بن الأَشْرَف{[450]} ، وسألوه عن " الم " وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم كذلك نزلت " ، فقال حُيَيّ : إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمّة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيَيّ : فهل غير هذا ؟ قال : " نعم المص " فقال حُيَيّ : هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهل غير هذا ؟ قال : " نعم الر " قال حُيَيّ : هذه أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً ، فهل غير هذا ؟ قال : " نعم " قال : " المر " قال : فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ .

فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن مُلْكِ هذه الأمّة ، ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم بالكثير ؟ فذلك قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي? أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ }{[451]} [ آل عمران : 7 ] الآية الكريمة .

ورُوي عن ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنها أقسام .

وقال الأخفش : أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها ؛ لأنها مبادئ كتبه المنزلة ، ومباني أسمائه الحسنى .

وقيل فيها غير ذلك .

واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم ، وهي أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والباء ، والنون في تسع وعشرين سورة .

وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد ، فوردت " ص ق ن " على حرف .

و " طه وطس ويس وحم " على حرفين .

و " الم والر وطسم " على ثلاثة أحرف .

و " المص والمر " على أربعة أحرف .

و " كهيعص وحم عسق " على خمسة أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف ، فكذا هاهنا .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[430]:- ينظر الكتاب: 3/61، 498، شرح المفصل: 9/92، 12/1042، اللسان: أدم، المخصص: 13/116، الأصول لابن السراج: 1/433، شرح الجمل لابن عصفور: 1/532، الكشاف: 1/24، الدر: 1/88، ولسان العرب (أدم).
[431]:- في أ: فهم يكرهون.
[432]:- سقط في ب.
[433]:- في أ: يشركها.
[434]:- حرف الهجاء كـ "ص"، و"ن"، و"ق"، تجوز فيه الحكاية؛ لأنها حروف، فتحكى كما هي، والإعراب جعلها أسماء لحروف الهجاء، وعلى هذا يجوز فيها الصرف وعدمه؛ بناء على تذكير الحرف وتأنيثه، وسواء في ذلك أضيف إليه سورة أم لا؛ نحو: قرأت صاد أو سورة صاد بالسكون والفتح منونا وغير منون. من هذه الأحرف في أوائل السور ما وازن الأعجمي كـ "حميم" و"وطسين" و"يس" - فأوجب ابن عصفور فيه الحكاية؛ لأنها حروف مقطعة، وجوّز الشلوبين فيه ذلك - والإعراب غير مصروف؛ لموازنته هابيل وقابيل وقد قرئ يسين بنصب النون، وسواء في جواز الأمرين أضيف إليه سورة أم لا، ومن هذه الحروف المركب كـ "طسم"، فإن لم يضف إليه سورة، ففيه رأي ابن عصفور والشلوبين فيما قبله، ورأي ثالث: وهو البناء للجزأين على الفتح؛ كـ "خمسة عشر"، وإن أضيف إليه سورة لفظا أو تقديرا، ففيه الرأيان، ويجوز على الإعراب فتح النون وإجراء الإعراب على الميم؛ كـ "بعلبك"، وإجراؤه على النون مضافا لما بعده، وعلى هذا في "ميم" الصرف وعدمه؛ بناء على تذكير الحرف وتأنيثه، أما "كهيعص وحمعسق" فلا يجوز فيهما إلا الحكاية سواء أضيف إليهما سورة أم لا، ولا يجوز فيهما الإعراب؛ لأنه لا نظير لهما في الأسماء المعربة، ولا تركيب المزج؛ لأنه لا يركبه أسماء كثيرة وأجاز يونس في "كهيعص" أن تكون كلمة مفتوحة والصاد مضمومة؛ ووجهه أنه جعله اسما أعجميا، وأعربه وإن لم يكن له نظير في الأسماء المعربة. انظر همع الهوامع: (1/35)، والارتشاف: (1/444)
[435]:- عامر بن شراحيل الحميري الشعبي أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر روى عنه وعن علي وابن مسعود، ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق قال: أدركت خمسمائة من الصحابة، وعنه ابن سيرين والأعمش وشعبة وجابر الجعفي وخلق، قال أبو مجلز ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه، قال الشعبي ما كتبت سوداء في بيضاء، قال يحيى بن بكير: توفي سنة ثلاث ومائة. - تنظر ترجمته في تهذيب الكمال: 2/643، تهذيب التهذيب: 5/65 (110)، تقريب التهذيب: 1/387 (46)، خلاصة تهذيب الكمال: 2/22، الكاشف: 4/54، تاريخ البخاري الكبير: 6/450، تاريخ البخاري الصغير: 1/243، 253، الجرح والتعديل: 6/1802، الوافي بالوفيات: 16/587، والحلية: 4/310.
[436]:- الحصين بن جندب بن عمرو بن الحارث الجنبي بفتح الجيم أبو ظبيان الكوفي عن حذيفة وسلمان وعلي وطائفة، وعنه ابن قابوس وحصين بن عبد الرحمان وسماك وعطاء وثقه ابن معين. قال ابن سعد: توفي سنة تسعين. ينظر تهذيب الكمال: 1/297، تهذيب التهذيب: 2/379، تقريب التهذيب: 1/182، خلاصة تهذيب الكمال: 1/233، الكاشف: 1/236، تاريخ البخاري الكبير: 3/3.
[437]:- أخرجه أبو داود في السنن (1/585 - 589) مطولا عن جابر بن عبد الله كتاب المناسك باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1905). وابن ماجه في السنن (2/1022 - 1027) مطولا عن جابر بن عبد الله كتاب المناسك (25) باب حجة رسول الله ت (84) حديث رقم (3074) - وأحمد في المسند (3/26).
[438]:- أخرجه أحمد في المسند (1/91) بلفظ مقارب عن علي بن أبي طالب والدارمي في السنن (2/435) كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن.
[439]:- في أ: تأويله.
[440]:- ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1/103 وابن كثير في التفسير 6/357 - والسيوطي في اللآلئ المصنوعة 1/115 والزبيدي في الإتحاف 1/166، 2/66. والهندي في كنز العمال حديث رقم 8942، وعزاه للديلمي عن أبي هريرة.
[441]:- ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال حديث رقم 1511، 2299، وابن حجر في لسان الميزان 2/488، 594 - والعجلوني في كشف الخفاء 1/147 - والزبيدي في الإتحاف 2/223 والحديث رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/91) عن جابر مرفوعا وقال ابن عبد البر: هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول.
[442]:- محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي أبو الفضل الكوفي. عن أبي صالح باذام والشعبي وغيرهما. وعنه ابن المبارك وابن فضيل ويزيد بن هارون وخلف. قال ابن عدي: رضوه في التفسير. وقال أبو حاتم: أجمعوا على ترك حديثه، واتهمه جماعة بالوضع، قال مُطَيَّن: مات سنة 146هـ. ينظر الخلاصة: 2/405 (6242).
[443]:- سقط في أ.
[444]:- صدر بيت للوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان بن عفان لأمه وعجزه: ..................... *** لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف ينظر المحتسب: 2/204، الخصائص: 1/31، شواهد الشافية: 261 وما بعدها، الأغاني: 5/131، معاني القرآن للزجاج: 1/24، الصاحبي: 161، مجمع البيان: 1/71، زاد المسير: 1/21.
[445]:- معاني القرآن للزجاج: 1/62، مجمع البيان: 1/71، زاد المسير: 1/21.
[446]:- ينظر اللسان: "فلا".
[447]:- سقط في أ.
[448]:- عطية بن الحارث الهمداني أبو روق الكوفي عن أنس وإبراهيم التيمي والشعبي، وعنه ابناه يحيى وعمارة والثوري، قال أبو حاتم صدوق. ينظر الخلاصة: 2/33 (4875)، تهذيب الكمال: 2/939، تهذيب التهذيب: 7/224 (412)، تقريب التهذيب: 2/24.
[449]:- حيي بن أخطب النضري: جاهلي من الأشداء العتاة، كان ينعت بسيد الحاضر والبادي، أدرك الإسلام وآذى المسلمين فأسروه يوم قريظة ثم قتلوه. ينظر الأعلام: 2/292 (3509)، سيرة ابن هشام: 148 و149.
[450]:- كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي. كانت أمه من "بني النضير" فدان باليهودية. وكان سيدا في أخواله. أدرك الإسلام ولم يسلم، وأكثر من هجوم النبي – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم، والتشبيب بنسائهم. وخرج إلى مكة بعد وقعة "بدر" فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إلى المدينة. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقتله، فانطلق إليه خمسة من الأنصار فقتلوه في ظاهر جصنه سنة 3هـ. وحملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة. ينظر الروض الأنف: 2/123، إمتاع الأسماع: 1/107، ابن الأثير: 2/53، الطبري: 3/2، الأعلام: 5/225.
[451]:- ذكره ابن كثير في التفسير: 1/60.