وقيل : هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى : { واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] فإنها آخر آية نزلت ، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع ب " منى " ، وآيات الرّبا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن .
قال خالد بن معدان{[1]} : ويقال لها : فُسطاط القرآن .
وتعلمها عمر-رضي الله عنه- بفقهها ، وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة ، وابنه عبد الله في ثماني سنين .
قال ابن العربي رضي الله عنه : " سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر " .
وهي مائتان وستة وثمانون آية ، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف . عن سهل بن سعد{[2]} -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال " {[3]} .
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- بعثا ثم أتبعهم بسفر ، فجاء إنسان منهم فقال : " ما معك من القرآن ؟ " حتى أتى على أحدثهم سنًّا فقال له : " ما معك من القرآن ؟ " قال : " كذا وكذا ، وسورة البقرة فقال : " اخرُجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا : يا رسول الله هو أحدثنا فقال : " معه سورة البقرة " {[4]} .
إن قيل : إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجِّي ، بمعنى أن الميم اسم ل " مَهْ " ، والعين ل " عَهْ " ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامكم ، ولكن عجزتم عنه ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدة ، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو : " واحد اثنان " ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة ، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال :
والثاني : أنها معربة ، بمعنى أنها صالحة للإعراب ، وإنما فات شرطه وهو التركيب ، وإليه مال الزمخشري رحمه الله .
والثالث : أنها موقوفة أي لا معربة ولا مبنيةٌ .
أو إن قيل : إنها أسماء السور المفتتحة بها ، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها ، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله : الميم من " عليهم " ، والصاد من " صادق " ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر :
فالرفع على أحد وجهين : إما بكونها مبتدأ ، وإما بكونها خبراً كما سيأتي بيانه مفصلاً إن شاء الله تعالى .
والنصب على أحد وجهين أيضاً : إما بإضمار فعلٍ لائقٍ ، تقديره : اقرءوا : " الم " ، وإما بإسقاط حرف القسم ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
إِذا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ *** فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّرِيدُ{[430]}
وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها .
وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه : أنّ القرآن في : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ ص : 1 ] والقلم في
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [ القلم : 1 ] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم ، أو للعطف ، والأول يلزم منه محذور ، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال : [ وهم يستكرهون ]{[431]} ذلك .
والثاني ممنوع ، لظهور الجَرّ فيما بعدها ، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب ، وهو رَدّ واضح ، إلا أن يقال : هي في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [ فيما بعده ]{[432]} كالموضعين المتقدمين ؛ { حم وَالْكِتَابِ } [ الزخرف : 1-2 ] ، و{ ق وَالْقُرْآنِ } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع ، فالرد لازم كله .
والجَرّ من وجهٍ واحدٍ ، وهو أنها مقسم بها ، حذف حرف القسم ، وبقي عمله كقولهم : " اللهِ لأفعلنَّ " أجاز ذلك الزمخشري ، وأبو البقاء رحمهما الله ، وهذا ضعيف ؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها{[433]} فيه غيرها .
فتخلص مما تقدم أن في " الم " ونحوها ستة أوجه وهي : أنها لا محل لها من الإعراب ، أَوْ لَهَا محل ، وهو الرفع بالابتداء ، أو الخبر .
والنَّصْب بإضمار فعل ، أو حذف حرف القسم .
والجَرّ بإضمار حرف القسم{[434]} .
سئل الشعبي{[435]} - رحمه الله تعالى - عن هذه الحروف فقال : سرّ الله ، فلا تطلبوه .
وروى أبو ظِبْيَانَ{[436]} عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال : عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا ، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سرّ القرآن ؛ فنحن نؤمن بظاهرها ، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى .
قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : " في كل كتاب سِرّ ، وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور " .
ونقل ابنُ الخَطِيْبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق ، واحتجوا عليه بآيات منها :
قوله تبارك وتعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] بالتدُّبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم ، فكيف يأمر بالتدبّر فيه .
وكذا قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] فكيف يأمر بالتدبُّر لمعرفة نفي التَّنَاقض والاختلاف ، وهو غير مفهوم للخلق ؟
ومنها قوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 193- 195 ] ، فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول - عليه السلام - منذراً به ، وأيضاً قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } يدلّ على أنه نازلٌ بلغة العَرَبِ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوماً .
ومنها قوله تعالى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] ، والاستنباط منه لا يمكن إلاّ مع الإحاطة بمعناه .
ومنها قوله تعالى : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] .
وقوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .
وقوله تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] ، { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وغير المعلوم لا يكون هُدًى .
وقوله تعالى : { وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم .
وقوله تبارك وتعالى : { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] .
وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم ؟
وقوله تعالى : { هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } [ إبراهيم : 52 ] ، فيكف يكون بلاغاً ؟ وكيف يقع به الإنذار ، مع أنه غير معلوم ؟
وقال في آخر الآية : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ، وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً .
وقوله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] فكيف يكون هاديا ، مع أنه غير معلوم ، ومن الأخبار قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " إنِّي تَركْتُ فيكم ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ به لن تَضِلُّوا بَعْدِي أبداً كتابَ الله وسُنَّتي " {[437]} فكيف يمكن التمسُّك به وهو غير معلوم ؟
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه -عليه الصلاة والسّلام- قال : " عليكم بكتاب الله - فيه نَبَأُ ما قبلكم ، وخبر مَنْ بَعْدَكم ، وحُكْم ما بينكم هو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ ، من تركه من جَبَّار قَصَمَهُ الله تعالى . ومن اتَّبَعَ الهدى في غيره أضَلّه الله - تعالى - هو حَبْلُ الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصِّراط المستقيمُ ، هو الذي لا تزيغُ به الأهواء ، ولا تشبع به العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرَّد ولا تنقضي عَجَائبه ، مَنْ قَالَ به صَدَقَ ، ومن حكم به عَدَل ، ومن خاصم به فَلَج ، ومن دَعَا إليه هُدِيَ إلى صِرَاط مستقيم " {[438]} .
ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العِلْم إلاّ به لكانت المُخَاطبة به نحو مُخَاطبة العرب باللّغة الزنجية ، ولما لم يَجُزْ ذلك فكذا هذا .
وأيضاً المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المُخَاطبة عبثاً وسفهاً ، وهو لا يليق بالحكيم .
وأيضاً أنَّ التَّحدِّي وقع بالقرآن ، وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التَّحدِّي به .
واحتجّ مخالفوهم بالآية ، والخَبَرِ ، والمعقول .
أما الآية فهو أن المُتشَابه من القرآن ، وأنه غير معلوم ؛ لقوله تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] والوقف هاهنا ، لوجوه :
أحدها : أن قوله تَعَالَى : " والراسخون في العلم " لو كان معطوفاً على قوله تعالى " إِلاَّ الله " لبقي قوله : " يقولون آمنا به " منقطعاً عنه ، وإنه غير جائزٍ ؛ لأنه لا يقال : إنّه حال ، لأنا نقول : فحينئذ يرجع إلى كُلّ ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وهذا كفر .
وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنّهم لما عرفوه بالدّلالة لم يكن الإيمان به إلاّ كالإيمان بالمُحْكَم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مَدْحٍ .
وثالثها : أن تأويلها{[439]} كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذمًّا ، لكن قد جعله ذمًّا حيث قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : " إنَّ من العلم كهيئة المَكْنُون لا يعلمه إلاّ العُلَماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرّة بالله " {[440]} .
ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقًّا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم " {[441]} .
وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان : منها ما يعرف وَجْه الحكمة فيه على الجُمْلة بعقولنا كالصَّلاة والزكاة والصَّوم ، فإنَّ الصَّلاة تضرُّع محضٌ ، وتواضعُ للخالق ، والزكاة سَعْي في دَفْعِ حاجة الفقير ، والصّوم سعي في كسر الشهوة .
ومنها ما لا يعرف وَجْهُ الحكمة فيها على الجملة بعقولنا كأفعال الحَجّ في رَمْيِ الجَمَرَات ، والسَّعي بين الصفا والمروة ، والرَّمل ، والاضْطِبَاع .
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول ، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني ؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول ، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم ، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه .
أما الطاعة في النوع الثاني ، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال ، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [ الأمر ] كذلك في الأقوال ؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارةً بما لا نقف على معناه ، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم .
القول الثَّاني : قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومةٌ ، واختلفوا فيه ، وذكروا وجوهاً :
الأوّل : أنها أسماء السّور ، وهو قول أكثر المتكلّمين ، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى .
قال القَفّال - رحمه الله تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب " لام " : والد حارثة بن لام الطَّائي ، وكقولهم للنَّخاس : " صاد " ، وللنقد : " عين " ، وللسحاب : " غين " .
وقالوا : جبل " قاف " ، وسموا الحوت : " نوناً " .
الثاني : أنها أسماء الله تَعَالى ، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول : يا حم عسق .
الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى .
قال سعيد بن جبير رحمه الله : قوله : " الر ، حم ، ونون " مجموعها هو اسم الرحمان ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي .
الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكَلْبِيّ{[442]} - رحمه الله تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم .
الخامس : أن كلّ واحد منها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته .
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في " الم " : " الألف إشارة إلى أنه [ أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، " واللام " إشارة إلى أنه لطيف ، " والميم " إشارة إلى أنه ]{[443]} مَلِك مَجِيد مَنَّان " .
وقال في " كهيعص " : إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه ، " والكاف " يدل على كونه كافياً ، " والهاء " على كونه هادياً ، " والعين " على العالم ، " والصاد " على الصادق . وذكر ابن جريرٍ عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل " الكاف " على الكبير والكريم ، " والياء " على أن الله يجير ، " والعين " على أن الله العزيز والعدل .
والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك .
السادس : بعضها يدلّ على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصّفات .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في " الم " أنا الله أعلم ، وفي " المص " أنا الله أفصل ، وفي " الر " أنا الله أرى ، وهذه رواية أبي صالح ، وسعيد بن جبير عنه .
قال الزَّجَّاج : " وهذا أحسن ، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم : [ مشطور السريع ]
قُلْنَا لَهَا : قِفِي لَنَا قََالَتْ : قَافْ *** . . …………… . . {[444]}
وأنشد سيبويه لغيلان : [ الرجز ]
نَادَوْهُمْ أَنَ الْجِمُوا ، أَلاَ تَا *** قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا{[445]}
أي : لا تَرْكَبُوا ، قالوا : بَلَى فَارْكَبُوا .
جَارِيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أَنْ تَا *** تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا{[446]}
السّابع : كلّ واحد منها يدلّ على صفات الأفعال ، ف " الألف " آلاَؤه ، و " اللاّم " لُطْفه ، و " الميم " مَجْدُه ، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي .
الثَّامن : بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى .
قال الضَّحاك : " الألف " من الله ، و " اللام " من جبريل ، و " الميم " من محمد عليه الصَّلاة والسلام [ أَي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام ]{[447]} .
التاسع : ما قاله المبرّد : واختاره جمعٌ عظيم من المحقّقين - أنّ الله - تعالى - إنَّمَا ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أن الرَّسول - عليه الصَّلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن ، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ ، أو بسورة ، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفَصَاحة ، فكان يجب أن تأتوا بِمِثْلِ هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِنْدِ الله لا من البَشَرِ .
العاشر : قول أبي روق{[448]} وقُطْرب : إن الكُفَّار لما قالوا :
{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه ، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتهم ، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف ، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القُرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم ، وطريقاً إلى انتفاعهم ، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول .
الحادي عشر : قول أبي العَالِيَةِ " إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين " .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَتْلُو سورة البقرة { الم ذَلِكَ الكِتَابُ } ، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب{[449]} ، وكَعْب بن الأَشْرَف{[450]} ، وسألوه عن " الم " وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم كذلك نزلت " ، فقال حُيَيّ : إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمّة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيَيّ : فهل غير هذا ؟ قال : " نعم المص " فقال حُيَيّ : هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهل غير هذا ؟ قال : " نعم الر " قال حُيَيّ : هذه أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً ، فهل غير هذا ؟ قال : " نعم " قال : " المر " قال : فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ .
فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن مُلْكِ هذه الأمّة ، ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم بالكثير ؟ فذلك قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي? أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ }{[451]} [ آل عمران : 7 ] الآية الكريمة .
ورُوي عن ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنها أقسام .
وقال الأخفش : أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها ؛ لأنها مبادئ كتبه المنزلة ، ومباني أسمائه الحسنى .
واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم ، وهي أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والباء ، والنون في تسع وعشرين سورة .
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد ، فوردت " ص ق ن " على حرف .
و " طه وطس ويس وحم " على حرفين .
و " الم والر وطسم " على ثلاثة أحرف .
و " المص والمر " على أربعة أحرف .
و " كهيعص وحم عسق " على خمسة أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف ، فكذا هاهنا .