اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

كسرت الذّال من " إذ " لالتقاء الساكنين ، والسين للطلب على وجه الدعاء أي : سأل لهم السُّقْيَا ، وألف " اسْتَسْقَى " منقلبة عن ياء ؛ لأنه من " السَّقْي " ، وتقدَّم معنى " اسْتَفْعَلَ " ، ويقال : " سَقَيْتُه " و " أَسْقَيْتُهُ " ، بِمَعْنًى ؛ وأنشد : [ الوافر ]

521- سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى *** نُمَيْراً وَالقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ

وقيل : " سقيته " : أعطيته ما يشرب ، " وأسقيته " : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء .

و " الإسْقاء " أبلغ من " السَّقْي " على هذا .

وقيل : أسقيته : دَلَلْتُه على الماء ، وسيأتي عند قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين ، قال تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] وقال : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .

و " لِقَوْمِهِ " متعلّق بالفعل ، واللام للعلّة ، أي : لأجل ، أو تكون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم : " سُقْياً لَكَ " فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها .

قوله : { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } الإدغام هنا واجبٌ ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين ؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو : اضرب بكراً ، وألف " عصاك " منقلبة عن واو ؛ لقولهم في النّسب : عَصَوِيٌّ ، وفي التثنية عَصَوَان ؛ قال : [ الطويل ]

522- . . . *** عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِريٌّ مُشَبْرَقُ

والجمع : " عُصِيّ " " وَعِصِيّ " بضم العين وكسرها إتباعاً ، و " أَعْصٍ " مثل : " زَمَنٍ " " وأَزْمُن " ، والأصل : " عُصُوُو " و " أَعْصُو " ، فأعلّ . وعَصَوْتُه بالعَصَا ، وعَصَيْتُه بالسيف . و " ألقى عَصَاه " يعبر به عن بلوغ المنزل ، قال : [ الطويل ]

523- فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى *** كَمَا قَرَّ عَيْناً بِالإيَابِ المُسَافِرُ

وانشقت العَصَا بين القوم ، أي : وقع الخلاف ؛ قال : [ الطويل ]

524- إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا *** فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

قال الفَرَّاء : " أوّل لحن سمع ب " العراق " هذه عَصَاتي " ، يعني : بالتاء .

وفي [ المثل ] : " العَصَا من العُصَيَّة " أي : بَعْضُ الأمر من بَعْضٍ .

و " الحَجَر " مفعول . و " أل " فيه للعَهْدِ .

وقيل : للجنس ، وهو معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد " أَحْجَار " وفي التكثير : " حِجَارٌ وحِجَارَةٌ " . و " الحِجَارة " نادر ، وهو كقولنا : " جَمَل وجِمَالة " ، و " ذَكَر وذِكَارة " قاله ابن فارس والجَوْهري .

وكيف يكون نادراً وفي القرآن : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ } [ البقرة : 27 ] ، { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً } [ الإسراء : 50 ] ، { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ } [ الفيل : 4 ] ، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً } [ هود : 82 ] .

قوله : { فَانفَجَرَتْ } " الفاء " عاطفة على محذوف لا بُدّ من تقديره : فضرب فانفجرت . قال ابن عصفور : إن هذه " الفاء " الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف ، والفاء الداخلة على " انْفَجَرَتْ " محذوفة ، وكأنه يقول : حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، وحذفت " الفاء " الثانية لدلالة الأولى عليها . ولا حاجة إلى ذلك ، بل يقال : حذفت الفاء ، وما عطفته قبلها .

وجعلها الزمخشري جواب شرط [ مقدر ] قال : [ أو ] فإن ضربت فقد انفجرت ، قال : " وهي على هذا فاء فَصِيحة لا تقع إلا في كلام بليغ " . وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب .

و " الانْفِجَار " : الانشقاق والتفتُّح ، ومنه : الفَجْر لانشقاقه بالضَّوء .

وفي " الأعراف " : { فَانبَجَسَتْ } [ الأعراف : 160 ] فقيل : هما بمعنى .

وقيل : " الانْبِجَاس " أضيق ؛ لأنه يكون أولاً والانفجار ثانياً .

وقيل : انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنًى وَاحِدٍ .

قوله : { اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل " انْفَجَرَتْ " ، والألف علامة الرفع ؛ لأنه محمول على المُثَنّى ، وليس بمثنى حقيقة ، إذ لا واحد له من لفظه ، وكذلك مذكره " اثنان " ، ولا يضاف إلى تمييز ، لاستغنائه بذكر المعدود " مثنى " تقول : " رجلان وامرأتان " ولا تقول : " اثنا رَجُل ، ولا اثنتا امرأة " إلا ما جاء نادراً فلا يقاس عليه ، قال : [ الرجز ]

525- كَأَنَّ خُصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ *** ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَلِ

و " ثنتان " مثل " اثنتين " ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يُعْرَبا بخلاف سائر أخواتهما ، قالوا : لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة ، وهي النون ، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعاً والباء نصباً وجرًّا .

وأما " عَشْرة " فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث ، ولها أحكام كثيرة .

و " عَيْناً " تمييز . وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى : " عَشِرَة " بكسر الشين ، وهي لغة تميم .

قال النحَّاس : " وهذا عجيب ، فإن لغة تميم " عشرة " بالكسر ، وسبيلهم التخفيف ، ولغة " عَشْرة " بالسكون ، وسبيلهم التثقيل " .

وقرأ الأعمش : " عَشَرَة " بالفتح .

و " العَيْن " : اسم مشترك بين عَيْنِ الإنسان ، وعَيْنِ الماء ، وعين الرَّكيّة ، وعَيْنِ الشمس ، وعَيْنِ الذهب ، وعين الميزان .

والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة . والعين : المَطَر الدائم ستًّا أو خمساً . والعين : الثقب في المَزَادة ، وبلد قليل العين ، أي : قليل النَّاس . [ وبها عين ، محركة الياء ] .

فإن قيل : إذا كانت العين لفظاً مشتركاً بين حقائق ، فكيف وقعت هنا تمييزاً ؟

فالجواب : أن قوله : " وَإذِ اسْتَسْقَى " ، وقوله : " فَانْفَجَرَتْ " ، وقوله : " مَشْرَبَهُمْ " دليل على إرادة عين الماء ، فاللفظ مع القرينة مميز ، والعَيْن من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها ، كخروج الدَّمع من عين الحيوان .

وقيل : لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبّهت به عين الماء ؛ لأنها أشرف ما في الأرض .

قوله : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } [ الأعراف : 160 ] قد تقدّم الكلام على أنّ " أناس " أصل " النّاس " .

وقال الزمخشري في سورة " الأعراف " : " إنه اسم جمع غير تكسير " ، ثم قال : " ويجوز أن يكون الأصل الكسر ، والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سُكَارى " من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى .

قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعول ل " علم " بمعنى " عرف " ، و " المَشْرَب " - هنا موضع الشُّرْب ؛ لأنه روي أنه كان لكل سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرة عيناً ، لا يشاركه فيها سبط غيره .

وقيل : هو نفس المشروب ، فيكون مصدراً واقعاً موقع المفعول به ، وضمير الجمع في قوله : " مشربهم " يعود على معنى " كُلُّ أُنَاسٍ " .

فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التِّيه

قال جمهور المفسرين : هذا الاستسقاء كان في التِّيْهِ ؛ لأن الله تعالى لما ظَلَّلَ عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المَنّ والسَّلْوَى ، وجعل ثيابهم بحيث لا تَبْلَى ، ولا تَتَّسِخ خافوا العَطَش ، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحَجَرِ ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال : بل هو كلام مفرد بِذَاتِهِ ، ومعنى الاسْتِسْقَاء طلب السُّقْيَا من المطر على عادة الناس إذا [ أقحطوا ] ، ويكون ما فعله الله من تَفْجِيرِ الحجر بالماء فوق الإجابة بالسُّقيا ، [ وإنزال الغيث ] .

[ وقال ابن الخطيب : ] وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين ، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التِّيْهِ ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النَّادر ، وأيضاً روي أنهم كانوا يحملون الحَجَر معهم ؛ لأنه صار معدًّا لذلك ، [ فكما كان ] المَنّ والسّلوى ينزلا من كل غَدَاة ، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت ، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التِّيْهِ .

فصل في جنس الشجرة

اختلفوا في العَصَا ، فقال الحسن : كانت عَصَا أخذها من بعض الأشجار وقيل : كانت من آسِ الجَنّة طولها عشرة أَذْرُع على طول موسى ، ولها شُعْبَتَان تَتَّقِدَان في الظلمة ، واسمه عليق ، وكان آدم عليه الصلاة والسلام حمله معه من الجَنّة إلى الأرض ، فتوارثه صَاغراً عن كَابِرٍ حتى وصل إلى شُعَيْب عليه الصلاة والسلام فأعطاه لموسى عليه الصلاة والسلام .

والذي ينبغي أن يقال : إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها ، وأن تنقلب حَيَّةً عظيمة ، وما زاد على ذلك لا دليل عليه .

قال ابن الخطيب : " والسُّكوت عن هذه المباحث واجب ؛ لأنه ليس فيها نَصّ متواتر ، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظَّن المستفاد من أخبار الآحاد " .

فصل في المراد بالحجر

إن قلنا : الألف واللام في " الحَجَرِ " للعَهْد ، فالإشارة إلى حَجَرٍ معلوم ، روي أنه حجر طُوري مربّع قدر رأس الشَّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، ينبع من كل وَجْه ثلاثة أعين لكل سِبْط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم .

وقيل : بل كانوا يجدونه في كل مَرْحَلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا من [ أعظم ] الإعجاز .

وقال سعيد بن جُبَيْرٍ : هو الحَجَرُ الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حين اغتسل ، فضربه حتى بَرَّأَهُ الله مما رموه به من الأُدْرَة ، فقال له جبريل : فيقول الله تعالى لك : ارفع هذا الحَجَرَ ، فإن لي فيه قدرة ، ولك فيه مُعْجزة ، فحمله في مخْلاَتِهِ . قال أبو روق : كان من [ الكدّان ] ، وقيل : من الرُّخَام .

[ فإن قلت ] : الألف واللام للجنس ، فمعناه : [ اضرب ] أي حجر كان .

قال الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحُجّة . وروي أنه كان يضره ضربةً واحدة ، فيظهر فيه اثنتا عشر عيناً كل عين مثل ثَدْي المرأة فيعرق ، وهو الانْبِجَاس ، ثم ينفجر بالأنهار .

قال عطاء : ثم يضربه ضربةً واحدة فَيَيْبَسُ .

وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني : كان يضربه اثنتا عشرة ضربةً لكل عين ضربة .

قال القرطبي : ما أوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من نَبْعِ الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المُعْجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار ، ومعجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يخرج الماء من بين لَحْمِ ودَمٍ !

وروى الأئمة الثقات عن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد ماءً فأتي بِتَوْرٍ فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، ويقول : " حي على الطّهور {[1339]} " .

قال الأعمش : حدثني سالم بن أبي الجَعْد ، قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : ألفاً وخمسمائة . لفظ النَّسَائي .

فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر

والحكمة في جَعْلِ الماء اثنتي عشرة عيناً قطع التنازع والتَّشَاجر بينهم ، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه .

أحدها : أن نفس ظهور الماء معجزة .

وثانيها : خروج الماء العطيم من الحجر الصغير .

وثالثها : خروج الماء بِقَدْر حاجتهم .

ورابعها : خروج الماء عند الضَّرْب بالعصا .

وخامسها : خروج الماء بالضَّرب بعصا معينة .

وسادسها : انقطاع الماء عند الاستغناء عنه ، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بِقُدْرَةٍ تامة في كل الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات .

قوله : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } هاتان الجملتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا . وقد تقدّم تصريف " كُلْ " وما حذف منه .

قوله : { مِن رِّزْقِ اللَّهِ } هذه من باب الإعمال ؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول . والتقدير : كلوا منه .

و " مِنْ " يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفاً ، وكذلك مفعول الشرب ؛ للدلالة [ عليهما ] ، والتقدير : كلوا المَنّ والسَّلوى لتقدمهما في قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [ البقرة : 57 ] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة . وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمحذوفه .

وقيل : المراد بالرِّزْقِ الماء وحده ، ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب . والمُرَاد بالرزق المرزوق ، وهو يحتمل أن يكون من باب " ذِبْح ورِعْي " ، وأن يكون من باب " درهم ضرب الأمير " وقد تقدم بيانه .

فإن قيل : قوله : { مِن رِّزْقِ اللَّهِ } يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله ، وذلك باطل .

فالجواب : من [ وجوه ] :

[ أحدها : أن هذا مفهوم لقب ؛ فلا يدل ] .

الثاني : أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره ، فهو خالص أرسله الله إليهم .

الثالث : أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل ، وما يشرب ؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة .

فصل في كلام المعتزلة

واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة ، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً ، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً ، وإنه غير جائز .

قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } .

أصل " تعثوا " : " تَعْثَيُوا " ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدل عليها . وهذا أولى ، فوزنه " تفعون " .

و " العِثِيّ " و " العَيْث " : أشد الفساد وهما متقاربان .

وقال بعضهم : " إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه ، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً ، يقال : عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا ، وهي لغة القرآن ، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا ، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً " .

وليس " عاث " مقلوباً من " عَثِيَ " ك " جَبَذَ وجَذَبَ " لتفاوت معنييهما كما تقدم .

ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع ، ويقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً ، وليس " عَثِيَ " أصله " عَثِوَ " فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ك " رضي " من الرِّضْوَان ، لثبوت العِثِيِّ ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك .

ويقال : عَثَّ يَعُثُّ مضافاً أي : فسد ، قال ابن الرِّقَاع : [ الكامل ]

526- لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَثَا *** فِيهِ المَشِيبُ لَزُرتُ أُمَّ القَاسِمِ

ومنه : العُثَّة : [ سوسة ] تفسد الصُّوف .

وأما " عَتَا " بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .

و " مُفْسِدِينَ " حال من فاعل " تَعْثُوا " وهي حال مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من عاملها ، و حسن ذلك اختلاف اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }

[ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا . ويحتمل أن تكون حالاً مبينة ؛ لأن الفساد أعم ، والمعنى أخص ، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تَتَمَادَوْا في الفساد في حال فسادكم ؛ لأنهم كانوا متمادين فيه . فغاير بينهما كما ترى .

و " في الأرض " يحتمل أن يتعلّق ب " تعثوا " وهو الظاهر ، وأن يتعلّق ب " مفسدين " . والمراد بالأرض : عموم الأرض [ لا ] أرض التِّيْهِ .

والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ }

[ طه : 81 ] .


[1339]:- أخرجه النسائي (1/60)، وأحمد (1/460) والدارمي (1/15) وابن خزيمة (204) وابن أبي شيبة (11/474) والبيهقي في "دلائل النبوة" (4/129).