اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ كُلّٞ مُّتَرَبِّصٞ فَتَرَبَّصُواْۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ} (135)

قوله : { قل{[27615]} كل متربص } { كل } مبتدأ ، و { متربص } خبره ، أفرد حملا على لفظ { كل }{[27616]} .

والمعنى كل منا ومنكم متربص منتظر عاقبة أمره ، وذلك أن{[27617]} المشركين قالوا : لنتربص بمحمد حوادث الدهر فإذا مات{[27618]} تخلصنا . قال الله تعالى{[27619]} : { فتربصوا } فانتظروا { فستعلمون } إذا جاء أمر الله ، وقامت القيامة ، وظهر{[27620]} أمر الثواب والعقاب فإنه يتميز المحق من المبطل .

ويحتمل أن يكون المراد قبل الموت إما{[27621]} بسبب الجهاد وإما بسبب ظهور الدولة والقوة{[27622]} .

قوله : { فستعلمون من أصحاب } يجوز في{[27623]} { من }{[27624]} وجهان :

أظهرهما{[27625]} : أن تكون استفهامية مبتدأة{[27626]} ، و { أصحاب } خبره ، والجملة في محل نصب سادة مسد المفعولين{[27627]} .

والثاني : ويعزى للفراء : أن تكون موصولة بمعنى الذين ، و ( أصحاب ) خبر مبتدأ مضمر ، أي هم{[27628]} أصحاب{[27629]} . وهذا على مقتضى مذهبهم ، يحذفون مثل هذا العائد وإن لم تطل الصلة{[27630]} . ثم ( علم ) يجوز أن تكون عرفانية فتكتفي بهذا المفعول وأن تكون على بابها فلا بد من تقدير ثانيهما .

قوله : { الصراط السّويّ } قرأ العامة " السّويّ " على وزن فعيل بمعنى المستوي{[27631]} وقرأ أبو مجلز{[27632]} وعمران بن ( حدير ){[27633]} {[27634]} " السَّوَاء " بفتح السين والمد بمعنى{[27635]} الوسط الجيد{[27636]} .

وقرأ يحيى بن يعمر{[27637]} والجحدري " السُّوَا " على فُعلى{[27638]} باعتبار أن " الصراط " يذكر ويؤنث{[27639]} . وقرأ ابن عباس : " السَّوْءَ " بفتح السين بمعنى{[27640]} الشر{[27641]} . وروي عنهما ( السُّوَّى ){[27642]} بضم السين وتشديد الواو{[27643]} ، ويحتمل ذلك وجهين :

أحدهما{[27644]} : أن يكون قلب الهمزة واوا وأدغم الواو في الواو{[27645]} ، وأن يكون فُعلَى من ( السواء ) وأصله ( السِّوْيَا ) فقلبت الياء واوا ، وأدغم أيضا ، وكان قياس هذه ( السِّيَّا ) ، لأنه متى اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء{[27646]} ، وهنا فعل بالعكس{[27647]} {[27648]} وقرئ " السُّوَيّ " بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء تصغير ( سَوء ) قاله الزمخشري .

قال أبو حيان : وليس بجيد إذ لو كان كذلك أثبت{[27649]} همزة ( سَوْء ){[27650]} ، والأجود أن يكون تصغير ( سواء ) كقولهم عطي في عطاء{[27651]} .

قال شهاب الدين : وقد جعله أبو البقاء أيضا تصغير ( السَّوْء ) بفتح الهمزة{[27652]} ويرد عليه ما تقدم إيراده على الزمخشري{[27653]} . وإبدال مثل هذه الهمزة جائز فلا إيراد{[27654]} {[27655]} .

قوله { ومن اهتدى } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون استفهامية ، وحكمها كالتي قبلها إلا في حذف العائد{[27656]} .

الثاني : أن في محل رفع على ما تقدم في الاستفهامية{[27657]} .

الثالث : أن في محل جر نسقا على " الصراط " أي وأصحاب من اهتدى{[27658]} . وعلى هذين الوجهين تكون موصولة .

قال أبو البقاء في الوجه الثاني : وفيه عطف الخبر على الاستفهام ، وفيه تقوية قول الفراء{[27659]} يعني أنه إذا جعلها موصولة كانت خبرية .

ومعنى الكلام : فستعلمون إذا جاء أمر الله وقامت القيامة من أصحاب الصراط المستقيم ومن اهتدى من الضلالة نحن أم أنتم .

ختام السورة:

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- " إن الله –عز وجل{[1]}- قرأ طه ويس{[2]} قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمة ينزل عليها هذا ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا " {[3]} .

وعن الحسن أن النبي –صلى الله عليه وسلم{[4]}- قال : " لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه " {[5]} . والله تعالى أعلم .

( تم الجزء المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في خامس عشر من رمضان المبارك المعطر قدره وحرمته سنة ثمانين وثمانمائة ، أحسن الله عاقبتها آمين ، على يد الفقير إلى الله تعالى علي بن محمد بن عبد الله الفيومي . والحمد لله رب العالمين على كل حال . يتلوه أول سورة الأنبياء ){[6]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[27615]:قل: سقط من ب.
[27616]:"كل" إذا قطعت عن الإضافة لفظا يجوز مراعاة اللفظ، وهو الإفراد، لأن لفظها مفرد، نحو قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84] وقوله تعالى: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ومراعاة المعنى، لأن معناها جمع نحو قوله تعالى: {وكل كانوا ظالمين} [الأنفال: 54] قاله أبو حيان. انظر المغني 1/200.
[27617]:في ب: لأن.
[27618]:في ب: فإذا جاء أي إذا مات.
[27619]:تعالى: سقط من ب.
[27620]:في ب: أظهر.
[27621]:في ب: أو.
[27622]:انظر الفخر الرازي 22/138.
[27623]:في ب: أن. وهو تحريف.
[27624]:في ب: هذه.
[27625]:في ب: أحدهما.
[27626]:في ب: خبرية مبتدأ. وهو تحريف.
[27627]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/80، البيان 2/156، التبيان 2/910، البحر المحيط 6/292.
[27628]:في ب: فهم.
[27629]:حيث قال في معاني القرآن: (وقوله: "فستعلمون من أصحاب الصراط السويّ" الذين لم يضلّوا) 2/197. وابن الأنباري وأبو البقاء لم يجوّزوا هذا الوجه لأن فيه حذف العائد المرفوع في صلة غير (أي)، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا إن طالت الصلة. انظر البيان 2/156، التبيان 2/910.
[27630]:أي أن الكوفيين يجوّزون حذف العائد المرفوع في صلة الموصول وإن لم تستطل الصلة. يقيسون على ذلك قراءة يحيى بن يعمر "تماما على الذي أحسن" بالرفع [الأنعام: 154]. وقراءة مالك بن دينار وابن السماك "ما بعوضة" بالرفع [البقرة: 26]. وقول الشاعر: من يعن بالحمد لا ينطق بما سفه ** * ولا يحد عن سبيل المجد والكرم وتبعهم ابن مالك إلا أنه جعله قليلا فقال: وإن لم يستطل فالحذف نزر***... انظر شرح الأشموني 1/168 – 169.
[27631]:انظر التبيان 2/910، البحر المحيط 6/292.
[27632]:هو لاحق بن حميد بن سدوس بن شيبان، وكان ينزل خراسان وعقبه بها وكان عمر بن عبد العزيز بعث إليه فأشخصه ليسأله عنها، وكان أبو مجلز عاملا على بيت المال وعلى ضرب السكة، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز قبل وفاة الحسن البصري. المعارف 466.
[27633]:هو عمران بن حدير أبو عبيدة السدوسي البصري ثقة. روى الحروف عن لاحق بن حميد وعكرمة، روى عنه الحروف عباس بن الفضل الأنصاري، مات سنة 149 هـ. طبقات القراء 1/604.
[27634]:ما بين القوسين في ب: حصين. وهو تحريف.
[27635]:في ب: يعني.
[27636]:التبيان 2/910، البحر المحيط 6/292.
[27637]:في ب: وقرأ أبو يعمر. وهو تحريف.
[27638]:في ب: على يفعل. وهو تحريف.
[27639]:الصراط مذكر، وأنثه يحيى بن يعمر بدليل قراءته هذه، قال ابن الأنباري: (ولا نعلم أحدا من العلماء باللغة حكى تأنيث الصراط، فإن صحت هذه القراءة عن ابن يعمر، ففيه أعظم الحجج، وهو من أجلاء أهل اللغة والنحو وكتاب الله جل ثناؤه نزل بتذكير الصراط، وكذلك هو في أشعار العرب) المذكر والمؤنث 1/422. وانظر المحيط 6/292.
[27640]:بمعنى: سقط من ب.
[27641]:انظر التبيان 2/910، البحر المحيط 6/292.
[27642]:السُّوّى: سقط من ب.
[27643]:البحر المحيط 6/292.
[27644]:في ب: الأول.
[27645]:فيكون أصل (السٌوّى) (السّوأى) فتبدل الهمزة واوا لأنها مفتوحة وقبلها ضمة، والساكن الذي بينهما ليس بحاجز حصين وأدغمت الواو في الواو فصارت (السوّى) انظر الكتاب 3/543، شرح الملوكي 265.
[27646]:انظر شرح الملوكي 461.
[27647]:في ب: بالكسر. وهو تحريف.
[27648]:الكشاف 2/453.
[27649]:في الأصل: كتبت.
[27650]:فتقول: "سؤى".
[27651]:البحر المحيط 6/293.
[27652]:التبيان 2/910.
[27653]:من أنه لو كان كذلك لثبتت همزة (سوء).
[27654]:لأن الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها إذا أردت تخفيفها أبدلتها.
[27655]:الدر المصون 5/43.
[27656]:انظر التبيان 2/910.
[27657]:أي تكون موصولة بمعنى الذي. التبيان 2/910.
[27658]:فتكون موصولة أيضا. التبيان 2/910.
[27659]:في جعله "من" في قوله: "من أصحاب" موصولة، فيكون عطف الخبر على الخبر. التبيان 2/910.