قوله : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } قيل : المراد{[27449]} منه نظر العين ، وهؤلاء قالوا : مَدَّ النظر تطويله ، وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور وإعجاباً به ، كما فعل نظارة قارون حيث قالوا : { يا ليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }{[27450]} حتى واجههم أولو العِلْم والإيمان فقالوا : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً }{[27451]} {[27452]} وفيه أن النظر غير الممدود يعفى عنه كنظر الإنسان إلى الشيء مرةً ثم يغض . ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطبائع{[27453]} قيل : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي : لا تفعل ما أنت معتاد له . ولقد شدد المتقون في وجوب غضِّ البصر عن أبنية الظلمة ، ولباس الفسقة{[27454]} ، ومراكبهم وغير ذلك ، لأنهم اتَّخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم ، وكالمغرى لهم على اتخاذها . قال أبو مسلم : ليس المنهي عنه هنا هو النظر بل هو الأسف ، أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا .
قال أبو{[27455]} رافع{[27456]} : نزل ضيفٌ بالرسول -عليه السلام{[27457]}- فبعثني إلى يهوديٍّ ، فقال قل له{[27458]} : إن رسول الله يقول : يعني كذا وكذا من الدقيق ، وأسلفني إلى هلال رجب ، فأتيته ، فقلت له ذلك ، فقال : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بقوله فقال : { والله لَئِنْ باعَنِي و{[27459]} أسْلَفَنِي لقضيتُهُ ، وَإنِّي لأَمينٌ{[27460]} فِي السَّمَاءِ وَآمِينٌ{[27461]} فِي الأَرْضِ اذْهَبْ بِدِرْعِي الحديد إليه } فنزلت هذه الآية{[27462]} . وقال عليه السلام{[27463]} : " إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلاَ إلَى أَمْوَالِكُمْ ولكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ " {[27464]} .
وقال أبو الدرداء : الدنيا دارُ مَنْ لا دارَ له ، ومالُ مَنْ لا مالَ له ، ولها يجمع من لا عقلَ له . وعن الحسن : لَوْلاَ حمقُ الناس لخربت الدُّنيا .
وعن عيسى ابن مريم -عليه السلام{[27465]}- لا تَتَّخِذُوا داراً فتتخذكم لها عبيداً . وعن عروة بن الزبير{[27466]} كان إذَا رَأى ما عِنْدَ السلطان يتلو{[27467]} هذه الآية ، وقال : الصلاة يرحمكم الله{[27468]} قوله : { أزواجاً } في نصبه وجهان : أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المفعول به{[27469]} . والثاني : أنَّه منصوب على الحال من الهاء في " بِهِ " {[27470]} .
راعى لفظ " مَا " مرده فأفرد ، ومعناها أخرى فلذلك{[27471]} جمع{[27472]} .
قال الزمخشري : ويكون الفعل واقعاً على " مِنْهُم " كأنه قال{[27473]} : إلى الذين متَّعْنا به وهو أصناف منهم{[27474]} . قال ابن عباس : أناساً{[27475]} منهم{[27476]} . قال الكلبي والزجاج : رجالاً منهم{[27477]} . قوله : " زَهْرَة " في نصبه تسعة أوجه :
أحدها{[27478]} : أنَّه مفعول ثانٍ ، لأنه ضَمَّن " مَتَّعْنَا " معنى{[27479]} أعطينا ، ف " أزْوَاجاً " مفعول أول ، و " زَهْرَةَ " هو الثاني{[27480]} .
الثاني : أن يكون بدلاً من " أزواجاً " ، وذلك إما على حذف مضاف أي ذوي زهرة ، وإمَّا على المبالغة جعلوا نفس الزهرة{[27481]} .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مضمرٍ دلَّ عليه " مَتَّعْنَا " تقديره : جَعَلنَا لهم زهرة{[27482]} .
الرابع : نصبه على الذم ، قال الزمخشري : وهو النصب على الاختصاص{[27483]} .
الخامس : أن يكون بدلاً من موضع الموصول{[27484]} ، قال أبو البقاء : واختاره بعضهم ، وقال آخرون : لا يجوز ، لأن قوله : لِنَفْتِنَهُمْ " من صلة " مَتَّعْنَا " فيلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي{[27485]} . وهو اعتراض حسن{[27486]} .
السادس : أن ينتصب على البدل من محل " بِهِ " {[27487]} .
السابع : أن ينتصب على الحال من " مَا " الموصولة{[27488]} .
الثامن : أنه حالٌ من الهاء في " بِهِ " ، وهو ضمير الموصول ، فهو كالذي قبله في المعنى{[27489]} .
فإن قيل : كيف يقع الحال معرفة ؟
فالجواب{[27490]} : أن تجعل " زَهْرَة " منونة نكرة ، وإنما حذف التنوين للالتقاء الساكنين نحو :
وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا{[27491]} *** . . .
وعلى هذا{[27492]} : فبم ( جُرَّت " الحَيَاةِ " ؟ فقيل : على البدل من " مَا " الموصولة ){[27493]} {[27494]} .
التاسع : أنه تمييز ل " مَا " أو الهاء في " بِهِ " قاله الفراء{[27495]}وقد ردوه{[27496]} عليه بأنه معرفة والمميز{[27497]} لا يكون معرفة{[27498]} ، وهذا غير لازم ، لأنه يجوز تعريف التمييز على أصول الكوفيين{[27499]} .
والعاشر{[27500]} : أنه صفة ل " أزْوَاجاً " بالتأويلين المذكورين في نصبه حالاً وقد منعه أبو البقاء يكون الموصوف نكرة والوصف معرفة{[27501]} ، وهذا يجاب عنه بما أجيب{[27502]} في تسويغ نصبه حالاً أعني{[27503]} حذف التنوين للالتقاء الساكنين . والعامة على تسكين الهاء{[27504]} ، وقرأ الحسن وأبو البرهسم{[27505]} وأبو حَيْوة بفتحها{[27506]} ، فقيل : بمعنى كَجَهْرَة وجَهْرَة . وأجاز الزمخشري{[27507]} أن يكونَ جمع زاهر{[27508]} كفَاجِر وفَجَرة وبَارّ وبَرَرَة{[27509]} وروى الأصمعي عن نافع " لِنُفْتِنهُمْ " بضم النون من أفتنه{[27510]} إذا أوقعه في الفتنة{[27511]} والزَّهْرة بفتح الهاء وسكونها كَنَهر ونهْر ما يروق من النور وسراج زاهر لبريقه{[27512]} ورجل أزهر وامرأة زهراء من ذلك والأنجم الزهرُ هي المضيئة .
فصل{[27513]}
معنى " مَتَّعْنَا " ألذَذَْنَا به ، والإمتاع : الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة{[27514]} ، ويشم من الروائح الطيبة ، وغير ذلك من الملابس والمناكح ، يقال : أَمْتَعَه{[27515]} ومتَّعه{[27516]} تمتيعاً ، والتفعيل يقتضي التكثير{[27517]} . ومعنى الزهرة فيمن حرَّك الزينة والبهجة ، كما جاء في الجهرة قرئ{[27518]} " أَرِنَا الله جَهْرَةً }{[27519]} . وقيل : جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زَهْرَة{[27520]} هذه الحياة الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلُّلِ وجوههم بخلاف ما عليه الصُّلحاء من شُحُوب الألوان والتقشف في الثياب{[27521]} . ومعنى " نَفْتِنَهُمْ " نُعَذِّبَهُم كقوله : { فَلاَ{[27522]} تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ{[27523]} بِهَا فِي الحياة الدنيا }{[27524]} .
وقال ابن عباس : لنجعل ذلك فتنةً لهم بأن أزيد لهم في النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً . ثم قال : " وَرِزْقُ رَبِّك " في المعاد يعني في الجنة " خَيْرٌ وَأَبْقَى " أي : خير من مطلوبهم وأبقى ، لأنه يدوم ولا ينقطع ، وليس كذلك حال ما أتوه في الدنيا .
ويحتمل أن{[27525]} ما أوتيته من يسير الدنيا إذا{[27526]} قرنته بالطاعة ، ورضيت به ، وصبرت عليه كانت عاقبته خيراً لك . ويحتمل أن يكون المراد ما أعطي من النبوة والدرجات الرفيعة{[27527]} .