اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مائة واثنتا عشرة آية ، وكلماتها ألف{[1]} ومائة وستون كلمة ، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمان وتسعون حرفا{[2]} .

قوله تعالى : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } الآية .

اللام متعلّقة ب «اقْتَرَبَ » ، قال الزمخشري : هذه اللام لا تخلو إمَّا{[27668]} أن تكون صلة ل «اقْتَرَبَ » ، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كقولك : أَزِفَ للحيّ رَحِيلُهُمْ ، الأصل : أَزِف رحيلُ الحيّ ، ثم أزف للحيّ الرحيلُ ، ثم أزف للحي رَحِيلُهُمْ ، ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً{[27669]} ، نحو عَلَيْكَ زَيْدٌ حَرِيصٌ علَيكَ ، وفِيكَ زيدٌ{[27670]} رَاغِبٌ فِيكَ{[27671]} ، ومنه قولهم : لاَ أَبَا لكَ{[27672]} ، لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة ، وهذا الوجه أغرب من الأول{[27673]} .

قال أبو حيَّان : يعني بقوله : صلة ل «اقْتَرَبَ » أي متعلقة به ، وأما جعله اللام توكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدا يقول ذلك ، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ، ولا يمكن تعلقها ب «حِسَابُهُمْ » لأنَّه مصدر موصول ، ولأنه قدم معموله عليه{[27674]} ، وأيضاً فإنّ التوكيد يكون متأخراً عن المؤكد ، وأيضاً فلو أخر في{[27675]} هذا التركيب لم يصح{[27676]} .

وأما تشبيهه بما أورده سيبويه فالفرق واضح ، فإن ( عَلَيْكَ ) معمول ل ( حريص ) و ( عَلَيْك ) المتأخرة{[27677]} تأكيد وكذلك ( فِيكَ زَيْدٌ{[27678]} رَاغِبٌٌ فِيكَ ) يتعلق{[27679]} ( فِيكَ ) ب ( رَاغِب ) و ( فِيكَ ) الثانية توكيد{[27680]} ، وإنَّمَا غره في ذلك صحة{[27681]} تركيب اقترب حساب{[27682]} الناس ، وكذلك أزِفَ رحيلُ الحيّ ، فاعتقد إذا تقدم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب : فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ ، فليس مثله .

وأما ( لاَ أَبَا لَكَ ) ، فهي مسألة مشكلة ، وفيها خلاف{[27683]} ، ويكن أن يقال فيها ذلك{[27684]} ، لأنَّ اللام فيها جاورت الإضافة ، ولا يقاس عليها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة{[27685]} . قال شهاب الدين : مسألة الزمخشري أشبه شيء بمسألة ( لاَ أَبَا لَكَ ) ، والمعنى الذي أورده صحيح ، وأما كونها مشكلة فهو إنما بناها على قول الجمهور ، والمشكل مقدر في بابه ، فلا يضرنا القياس عليه لتقريره في مكانه{[27686]} . قوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } يجوز أنْ يكونَ الجار متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في «مُعْرِضُونَ »{[27687]} وأن يكون خبراً من الضمير ، ومعرضون خب ثان وقول أبي البقاء في هذا الجار : إنه خبر ثان{[27688]} . يعني في العدد وإلا فهو أول في الحقيقة . وقد يقال : لمّا كان في تأويل المفرد جعل المفرد الصريح مقدماً في الرتبة ، فهو ثان بهذا الاختيار .

وهذه الجملة في محل نصب على الحال من «للنَّاسِ »{[27689]} .

فصل

نزلت في منكري البعث ، والقرب{[27690]} لا يعقل إلا في المكان والزمان ، والقرب المكاني هما ممتنع فتعين القرب الزماني . فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد عبر هذا القول أكثر من ستمائة عام ؟

والجواب{[27691]} من وجوه :

الأول : أنه مقترب عند الله ، لقوله تعالى :

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] .

الثاني : أنَّ{[27692]} كُلَّ آتٍ وإن طالت أوقات ترقبه ، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر :

3703- فَمَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبَ مِنْ غَدٍ *** وَلاَ زَالَ ما تَخْشَاهُ أبعدُ مِنْ أمسِ{[27693]}

الثالث : أنَّ{[27694]} المقابلة{[27695]} إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر ، فإنه لا يقال : اقترب الأجل ، أمَّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال : اقترب الأجل . فعلى هذا الوجه قال العلماء : إن فيه دلالة على قرب القيامة ، ولهذا قال عليه السلام{[27696]} : «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ »{[27697]} وقال عليه السلام : «ختمت النبوة »{[27698]} كل ذلك لأجل أنَّ{[27699]} الباقي من{[27700]} مدة التكليف أقل من الماضي{[27701]} واعلم أنه إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من مصلحة المكلفين ليكثر تحرزهم خوفاً منها{[27702]} . ولم يعين الوقت ، لأنَّ كتمان وقت الموت أصلح لهم{[27703]} والمراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل فيه .

قال ابن عبس : المراد بالناس المشركون . وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم ، وهو ما يتلوه من صفات المشركين{[27704]} .

وقوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وصفهم بالغفلة والإعراض ، وأما الغفلة فالمعنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بُدَّ من جزاء المحسن والمسيء ، ثم إذا انتبهوا من سِنَة الغفلة ، ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا وسدوا أسماعهم{[27705]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[27668]:في الكشاف: من.
[27669]:الكتاب 2/125.
[27670]:في الأصل: زيدا. وهو تحريف.
[27671]:وذلك أن سيبويه جعل تكرير الظروف بمنزلة ما لم يقع فيه تكرير في حكم اللفظ وجعل التكرير توكيدا للأول، لا يغير شيئا من حكمه فيما يكون خبرا و ما لا يكون خبرا، فـ (عليك) متعلق بـ (حريص)، (وعليك) الثانية توكيد للأولى وكذلك فيك زيد راغب فيك. قال سيبويه: (هذا باب ما يثنى فيه المستقر توكيدا. وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنى. وذلك قولك: فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب (قائم) باستغناء زيد بفيها وإن زعمت أنه انتصب بالآخر فكأنك قلت: زيد قائما فيها. فإنما هذا كقولك: قد ثبت زيد أميرا قد ثبت، فأعدت قد ثبت توكيدا، وقد عمل الأول في زيد والأمير. ومثله في التوكيد والتثنية: لقيت عمرا عمرا. فإن أردت أن تلغي فيها قلت: فيها زيد قائم فيها كأنه قال: زيد قائم كأنه فيصير بمنزلة قولك: فيك زيد راغب فيك). الكتاب 2/125.
[27672]:على القول بأن (أبا) مضاف إلى ما بعد اللام، وتكون اللام زائدة مؤكدة للإضافة فهي بمنزلة الاسم الذي ثني في النداء وذلك قولك: يا تيم تيم عدي. انظر الكتاب 2/276-277.
[27673]:الكشاف 3/2.
[27674]:في البحر المحيط: ولا يتقدم معموله عليه.
[27675]:في: سقط من ب.
[27676]:لأن الضمير في "حسابهم" يكون عائدا على متأخر لفظا ورتبة وهذا لا يجوز.
[27677]:في ب: لتأخر. وهو تحريف.
[27678]:في ب: زيدا.
[27679]:في ب: متعلق.
[27680]:وهنا لا يجوز مثل ذلك. فلا يجوز أن يكون (للناس) متعلقا بـ (حساب) و(هم) توكيد (للناس).
[27681]:في ب: خمسة. وهو تحريف.
[27682]:اقترب: تكملة ليست بالمخطوط.
[27683]:فسيبويه يرى أن اسم (لا) مضاف لما بعد اللام، واللام مقحمة بين المتضايفين. وغيره يرى أن اللام وما بعدها صفة، والاسم شبيه بالمضاف، لأن الصفة من تمام الموصوف. أو أن اللام وما بعدها خبر، و(أبا) تعرب بحركات مقدرة كالمقصور على لغة من يعربها كذلك. وحينئذ تكون اللام للاختصاص، وهي متعلقة باستقرار محذوف. انظر الكتاب 2/276-228، المغني 1/216-217.
[27684]:وهو كون اللام توكيدا للإضافة.
[27685]:البحر المحيط 6/296. يريد أن إقحام اللام في (لا أبا لك) ورد شاذا على غير قياس، فاختصت (لا) في الأب بهذا، كما اختص نصب (غدوة) بـ (لدن) على التشبيه باسم الفاعل، انظر الكتاب 2/281، شرح المفصل 2/107.
[27686]:الدر المصون: 5/43.
[27687]:أي أعرضوا قافلين: التبيان 2/911.
[27688]:المرجع السابق.
[27689]:انظر البحر المحيط 6/296.
[27690]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/139.
[27691]:في ب: فالجواب.
[27692]:أن: سقط من ب.
[27693]:البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله. و هو الفخر الرازي 22/139. البحر المحيط 6/295.
[27694]:أن: سقط من ب.
[27695]:في الفخر الرازي: المعادلة.
[27696]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[27697]:أخرجه مسلم (فتن) 4/2269، ابن ماجه (فتن) 2/1341، الدارمي 2/313. أحمد 5/103، 108.
[27698]:أخرجه أحمد في مسنده 3/361.
[27699]:أن: سقط من ب.
[27700]:في الأصل: في.
[27701]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/139.
[27702]:انظر الفخر الرازي 22/140.
[27703]:المرجع السابق.
[27704]:المرجع السابق.
[27705]:في ب: سماعهم. وهو تحريف. وانظر الفخر الرازي 22/140.