قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا } الآيات . اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وعلى كونه منزهاً عن الشريك ، وعلى التوحيد ، فتكون كالتوكيد لما تقدم ، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد . وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة ، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع ؟ فهذا وجه النظم{[28192]} . قرأ ابن كثير «أَلَمْ يَرَ » من غير واو ، والباقون بالواو{[28193]} . ونظير حذف الواو{[28194]} وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً }{[28195]} { سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ }{[28196]} ، وقد تقدم حكمه ، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه . والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية . ف «أَنَّ » وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول{[28197]} ، ومسد واحد والثاني محذوف{[28198]} عند الأخفش{[28199]} . وسادة مسد واحد قط على الثاني{[28200]} . فإن قيل : إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل{[28201]} ، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة ، ولقوله تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض }{[28202]} . وإن كان المراد بالرؤية العلم{[28203]} فمشكل ، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق{[28204]} في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار{[28205]} المنكرين للرسالة ، فكيف يجوز مثل{[28206]} هذا الاستدلال ؟
فالجواب : المراد{[28207]} من الرؤية العلم ، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه :
أحدها : أنا نثبت نبوة محمد - عليه السلام{[28208]}- بسائر المعجزات ، ثم نستدل بقوله ، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم ، وانتفاء الفساد عنه ، وذلك يؤكد{[28209]} الدلالة المذكورة في التوحيد .
وثانيها : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق ، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً .
وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك ، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين إلهية ، فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها ، وفتق بينهما ، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة{[28210]} محمد - صلى الله عليه وسلم{[28211]} - ، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك{[28212]} .
قوله : «كَانَتَا » الضمير يعود على «السَّمواتِ والأَرضَ » بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه :
أحدها : ما ذكره الزمخشري فقال : وإنما قال «كَانَتَا » دون كُنَّ ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين ، ومنه قولهم : لقاحان{[28213]} سوداوان ، أي : جماعتان ، فعل في المضمر ما فعل في المظهر{[28214]} .
الثاني : قال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين{[28215]} .
الثالث : قال الحوفي : «كَانَتَا رَتْقَاً » ، و «السَّمواتِ » جمع ، لأنه أراد الصنفين . قال الأسود بن يعفر{[28216]} :
3709- إِنَّ المَنِيَّةَ وَالخَوْفَ كِلاَهُمَا ***يُوفِي{[28217]} المخَارِمَ{[28218]} يَرْقُبَان سوَادِي{[28219]}
لأنه أراد النوعين{[28220]} . وتبعه ابن عطية{[28221]} في هذا فقال : وقال : «كَانَتَا » من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شُيَيْم{[28222]} :
3710- أَلَمْ يَحْزُنْكَ أن حِبَالَ قَيْسٍ ***وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَاً{[28223]}
قال الأخفش : «السَّموات » نوع ، والأرض نوع ، ومثله : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ }{[28224]} {[28225]} . ومن ذلك : أصلحنا بين القومين ، ومرت بنا غنمان أسودان ، لأن هذا القطيع غنم{[28226]} ، و «رَتْقَاً » خبر ، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر ، ثم لك أن تجعله قائماً مقام المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق{[28227]} أو تجعله على حذف مضاف أي : ذواتي رتق{[28228]} . وهذه قراءة الجمهور{[28229]} . وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رَتَقاً » بفتح التاء{[28230]} وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر أيضاً ، ففيه الوجهان المتقدمان في الساكن التاء{[28231]} .
والثاني : أنه فعل بمعنى مفعول كالقَبض والنَّفَض{[28232]} بمعنى المقبوض والمنفوض ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية . وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال : هو تقدير موصوف ، أي : كانتا شيئاً رتقاً{[28233]} .
وقال المفضل{[28234]} : لم يقل : كانتا رتقين كقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام }{[28235]} وحدّ «جسداً » كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق{[28236]} .
ورجح بعضهم{[28237]} المصدرية بعدم المطابقة في{[28238]} التثنية ، وقد عرف جوابه{[28239]} وله أن يقول : الأصل عدم حذف الموصوف ، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق : الانضمام ، ارتتق حلقه أي : انضم ، وامرأة رتقاء أي : منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك . والفتق : فصل ذلك المرتتق . وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق{[28240]} .
قال ابن عبَّاس{[28241]} في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيئاً واحداً ملتزمين ففصل الله بينهما ، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي ، وأصعد الأجزاء السماوية . قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقتهما . وقال مجاهد والسدي : كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرض مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين . وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين : إن السموات كانت رتقاً مستوية صلبة لا تمطر ، والأرض رتقاً لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ونظيره قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع }{[28242]} ورجحوا ذلك الوجه بقوله بعد ذلك : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، وهو ما ذكرنا فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة ، وهي سماء الدنيا .
فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق{[28243]} ، وبُرْمَة أَعْشَار{[28244]} . وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار . وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض }{[28245]} ، وكقوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ }{[28246]} فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق ، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق .
وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض ، وينفصل بعضها عن بعض .
فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم ، والفتق عن الوجود .
وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار }{[28247]} فكانت{[28248]} السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر{[28249]} . واعلم أن دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك{[28250]} . قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } يجوز في «جَعَلَ » هذه أن يكون بمعنى «خَلَقَ » فيتعدى لواحد ، وهو { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }{[28251]} و «من الماء » متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من «كُلَّ شَيْءٍ » لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال{[28252]} . ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه ، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء . ويجوز أن يكون ( جَعَلَ ) بمعنى ( صَيَّرَ ) فيتعدى لاثنين ثانيهما الجار{[28253]} بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب{[28254]} من الماء لا بد له منه . والعامة على خفض «حَيٍّ » صفة لشيء{[28255]} . وقرأ حميد بنصبه{[28256]} على أنه مفعول ثان ل «جعلنا » والظرف لغو{[28257]} ، ويبعد على هذه القراءة أن يكون «جَعَلَ » بمعنى ( خلق ) ، وأن ينتصب{[28258]} «حياً » على الحال .
قال الزمخشري : و «مِنْ » في هذا نحو «مِنْ » في قوله عليه السلام{[28259]} «ما أنا مِنْ دَدٍ وَلاَ الدَّدُ مِنَّي »{[28260]} {[28261]} .
فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم }{[28262]} ، وقال عليه السلام{[28263]} : «إن الله تعالى خلق الملائكة من النور »{[28264]} ، وقال في عيسى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } ، وقال في حق آدم : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ }{[28265]} فالجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن{[28266]} الكفار لم يروا شيئاً من ذلك{[28267]} .
قال بعض المفسرين{[28268]} : المراد بقوله : { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل{[28269]} فيه النبات ، لأنه من الماء صار نامياً ، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر . وهذا القول أليق بالمقصود ، لأن المعنى كأنه قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً . فإن قيل : النبات لا يسمى حياً . فالجواب : لا نسلم ، ويدل عليه قوله تعالى { كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ }{[28270]} . ثم قال { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا{[28271]} هذه الأدلة{[28272]} فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك{[28273]} .