قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور }{[31453]} .
قوله : «فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام{[31454]} ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير{[31455]} . وقيل : على جواب النفي{[31456]} وقرأ مبشر بن عبيد{[31457]} : «فَيَكُونَ » بالياء{[31458]} من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل{[31459]} محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة{[31460]} . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل{[31461]} العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى{[31462]} . ثم قال{[31463]} : { أَوْ{[31464]} آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها .
قوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى } الضمير للقصة ، و { لاَ تَعْمَى الأبصار } مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : «فإنه » لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود{[31465]} ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره «الأبصار » وفي «تعمى » ضمير راجع إليه{[31466]} .
قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب ( رُبَّ ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، ( وفي باب البدل{[31467]} ) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة{[31468]} ، وهذا ليس واحداً من الستة{[31469]} .
قال شهاب الدين : بل{[31470]} هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنَّ » فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :
هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت{[31471]} *** . . .
وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا }{[31472]} [ الأنعام : 29 ] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك {[31473]} .
قوله : { التي فِي الصدور } صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ »{[31474]} لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى{[31475]} هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك . ( فقولك : الذي بين فكيك ){[31476]} تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً{[31477]} . وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به . كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك {[31478]} .
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ }{[31479]} [ الممتحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } {[31480]} [ النساء : 131 ] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله . قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل{[31481]} هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده{[31482]} .
وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر{[31483]} ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }{[31484]} [ ق : 37 ] ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر{[31485]} . وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم }{[31486]} {[31487]} . [ آل عمران : 167 ] . وقد تقدم أن في قوله : «بِأَفْوَاهِهِمْ » فائدة زيادة على التأكيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.