اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور }{[31453]} .

قوله : «فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام{[31454]} ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير{[31455]} . وقيل : على جواب النفي{[31456]} وقرأ مبشر بن عبيد{[31457]} : «فَيَكُونَ » بالياء{[31458]} من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل{[31459]} محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة{[31460]} . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل{[31461]} العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى{[31462]} . ثم قال{[31463]} : { أَوْ{[31464]} آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها .

قوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى } الضمير للقصة ، و { لاَ تَعْمَى الأبصار } مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : «فإنه » لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود{[31465]} ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره «الأبصار » وفي «تعمى » ضمير راجع إليه{[31466]} .

قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب ( رُبَّ ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، ( وفي باب البدل{[31467]} ) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة{[31468]} ، وهذا ليس واحداً من الستة{[31469]} .

قال شهاب الدين : بل{[31470]} هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنَّ » فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :

هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت{[31471]} *** . . .

وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا }{[31472]} [ الأنعام : 29 ] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك {[31473]} .

قوله : { التي فِي الصدور } صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ »{[31474]} لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى{[31475]} هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك . ( فقولك : الذي بين فكيك ){[31476]} تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً{[31477]} . وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به . كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك {[31478]} .

وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ }{[31479]} [ الممتحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } {[31480]} [ النساء : 131 ] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله . قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل{[31481]} هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده{[31482]} .

وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر{[31483]} ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }{[31484]} [ ق : 37 ] ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر{[31485]} . وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم }{[31486]} {[31487]} . [ آل عمران : 167 ] . وقد تقدم أن في قوله : «بِأَفْوَاهِهِمْ » فائدة زيادة على التأكيد .


[31453]:انظر الفخر الرازي 23/ 45 – 46.
[31454]:قاله ابن عطية. تفسير ابن عطية 10/298.
[31455]:انظر البحر المحيط 6/377.
[31456]:انظر البحر المحيط 6/377.
[31457]:مبشر بن عبيد القرشي الحمصي، كوفي الأصل، روى عن زيد بن أسلم، وقتادة، وأبي الزبير، والزهري، وغيرهم روى عنه محمد بن شعيب والخليل بن مرة، وغيرهما. تهذيب التهذيب 10/ 32 – 33.
[31458]:المختصر (96) البحر المحيط 6/377.
[31459]:في ب: الفعل. أي: متعلق "يعقلون".
[31460]:انظر البحر المحيط 6/378.
[31461]:في ب: القعل. وهو تحريف.
[31462]:انظر الفخر الرازي 23/46.
[31463]:ثم: سقط من ب.
[31464]:في النسختين: و. وهو تحريف.
[31465]:انظر البحر المحيط 6/378.
[31466]:الكشاف 3/36.
[31467]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31468]:انظر المغني 3/489 – 793، الهمع 1/65 – 67.
[31469]:انظر البحر المحيط 6/378.
[31470]:في ب: بلى.
[31471]:في المغني: تحمل. والشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ مفسر بالخبر وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا. انظر المغني 2/489 الهمع 1/66.
[31472]:الدنيا: سقط من ب. [الأنعام: 29] ومن [المؤمنون: 37].
[31473]:الدر المصون: 5/77.
[31474]:من قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38].
[31475]:العمى: سقط من ب.
[31476]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31477]:الكشاف 3/36.
[31478]:البحر المحيط 6/378.
[31479]:[الممتحنة: 1].
[31480]:[النساء: 31].
[31481]:في: سقط من الأصل.
[31482]:الدر المصون 5/77.
[31483]:آخر: سقط من ب.
[31484]:[ق: 37].
[31485]:الفخر الرازي 23/46.
[31486]:من قوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران: 167].
[31487]:تفسير ابن عطية 10/299، وفيه الآية مقدمة على المثال. والآية فيه {بأفواهكم} من قوله تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} [النور: 15]، ومن قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم} [الأحزاب: 4].