لما ذكر بَعْض الأحْكَام الَّتِي يحتَاج المُجَاهِد إلى مَعْرِفتها ، عاد مَرَّة أخرى إلى الحَثِّ على الجِهَاد ، فقال : " وَلاَ تَهِنُوا " أي : ولا تَضْعُفُوُا ، ولا تَتَوانَوْا ، الجمهورُ : على كَسْر الهاء ، والحَسن{[9613]} : على فتحها من " وَهِن " بِالكَسْر في الماضِي ، أو من " وهَن " بالفَتْح ، وإنما فُتِحَت العَيْن ؛ لكونها حَلْقِيةً ، فهو نحو : يَدَع .
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر{[9614]} : " تُهَانَوْا " من الإهانة مبنيَّاً للمَفْعُول ، ومعناه : لا تَتَعاطَوا من الجُبْنِ والخَوَر ، ما يكون سَبَباً في إهَانتكم ؛ كقولهم : " لا أرَيَنَّك هَهُنَا " .
وقوله : { فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ } أي : في طَلَبِهِم ، وسبب نزولها : أنَّ أبا سُفْيَان وأصْحَابَهُ لمَّا رَجَعُوا يوم أُحُد ، بعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ طائفة ]{[9615]} في آثارِهِم ، فَشَكُوا ألَم الجِرَاحِ ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ } أي لا تَضْعُفُوا في طلب أبِي سُفْيَان وأصْحَابَهُ ، { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } : تتوجَّعُون من الجِرَاح ، " فإنَّهُمْ يَألَمُون " أي : يتوجَّعُونَ كما تألمون ، والمَعْنَى : أنَّ حصُول الألَمِ قدر مُشْتَركٌ بينكم وبَيْنَهُم ، فلمَّا لم يَكُنْ خوف الألَمِ مانِعاً لَهُم عن قِتَالِكُم ، فكيف يَصير مَانِعاً لكم عن قِتَالِهِم .
قرأ يَحْيَى بن وَثَّاب ، ومنصور بن المُعْتَمِر : " تِئلمون فإنهم يِئلمون كما تِئلمون " بكسر حَرْفِ المُضارَعَةِ ، وابن{[9616]} السَّمَيْفَع : بكسر تَاءِ الخطَاب فقط ، وهذه لُغَةٌ ثَابِتَة ، وقد تقدم في الفَاتِحَة أنَّ مَنْ يَكْسِرُ حَرفَ المُضَارعة يَسْتَثْني التَّاء ، وتقدم شُذُوذ " تِيجَل " ووجْهه ، وزاد أبُو البقاء{[9617]} في قِرَاءة كَسْر حَرْف المُضَارعة قَلْبَ الهَمْزَة ياءً ، وغيرُه أطلق ذلك .
وقرأ الأعْرَج{[9618]} : " أن تَكُونُوا تألَمون " بفتح هَمزة " أنْ " والمعنى : ولا تَهِنُوا لأنْ تَكُونوا تألمون .
وقوله : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } تعليل قوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } [ أي : وأنتم مع ذَلِكَ تأمَلُون من الأجْر والثواب في الآخرة ، والنَّصَر في الدُّنْيَا ما لا يَرْجُون ]{[9619]} ، فأنتم أوْلَى بالمُصَابَرةِ على القِتَال من المُشْرِكين ؛ لأن المُؤمِنِين مُقِرُّون بالثَّوَاب والعِقَابِ ، والحَشْر والنَّشر ، والمُشْرِكون لا يقرون بذلِك ، فإذا كانُوا مع إنْكَارِهِم ذلك مُجِدِّين في القِتَالِ ، فأنتم أيُّهَا المؤمِنُون المُقِرُّون بأنَّ لكم في الجِهَادِ ثَوَاباً ، وعليكم في تَرْكِهِ عِقَاباً أوْلَى بالجِدَّ في الجَهَادِ .
وقال بَعْض المُفَسِّرين{[9620]} : المراد بالرَّجَاء : الخَوْف ؛ لأنَّ كل رَاج خَائِفٌ ألاَّ{[9621]} يُدْرِك مأمُولَهُ ، ومعنى الآيَة وترجُونَ ، أي : تَخَافُون من عَذَاب اله ما لا يَخَافُون . قال الفرَّاء{[9622]} : ولا يكون الرَّجَاءُ بمعنى الخَوْف إلا مع الجدِّ ؛ كقوله - تعالى - :
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } [ الجاثية : 14 ] ، [ أي : لا يَخَافُون ]{[9623]} ، وقال - تعالى - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تَخَافُون للَّه عِظَة ، ولا يجُوز : رَجَوْتُك ، يَعْنِي : خِفْتُك ، ولا خفتك ، وأنت تُرِيد : رَجَوْتُك .
قال ابن الخَطِيب{[9624]} : ويُحْتَمَل أنَّكم تَعْبُدون الإله ، العَالِم القَادِر ، السَّمِيع ، البَصِير ، فيصحُّ منكم أنْ تَرْجُوا ثَوَابَه ، وأما المُشْرِكُون : فإنَّهم يَعبدون الأصْنَام وهي جَمادَات ؛ فلا يَصِحٌّ منهم أنْ يَرْجُوا منها ثَوَاباً ، أو يَخَافُوا منها عِقَاباً .
ثم قال : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : لا يُكَلِّفُكُم إلاَّ ما يَعْلَم أنَّه سَبَب لِصَلاحِ دِينكُم ودُنْيَاكُم ، وقد تقدم [ أنَّه إذا ]{[9625]} ذكر " الحَكِيم " بعد قوله : " العَلِيم " فالمرادَ بالحَكيم : أنه العَالِمُ بَعَواقِب الأمُور ، وقالت المُعْتَزِلَةُ : المُرادُ بالحَكِيم : هو الَّذِي يضع الأسْبَاب للمصَالِح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.