اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (104)

لما ذكر بَعْض الأحْكَام الَّتِي يحتَاج المُجَاهِد إلى مَعْرِفتها ، عاد مَرَّة أخرى إلى الحَثِّ على الجِهَاد ، فقال : " وَلاَ تَهِنُوا " أي : ولا تَضْعُفُوُا ، ولا تَتَوانَوْا ، الجمهورُ : على كَسْر الهاء ، والحَسن{[9613]} : على فتحها من " وَهِن " بِالكَسْر في الماضِي ، أو من " وهَن " بالفَتْح ، وإنما فُتِحَت العَيْن ؛ لكونها حَلْقِيةً ، فهو نحو : يَدَع .

وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر{[9614]} : " تُهَانَوْا " من الإهانة مبنيَّاً للمَفْعُول ، ومعناه : لا تَتَعاطَوا من الجُبْنِ والخَوَر ، ما يكون سَبَباً في إهَانتكم ؛ كقولهم : " لا أرَيَنَّك هَهُنَا " .

وقوله : { فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ } أي : في طَلَبِهِم ، وسبب نزولها : أنَّ أبا سُفْيَان وأصْحَابَهُ لمَّا رَجَعُوا يوم أُحُد ، بعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ طائفة ]{[9615]} في آثارِهِم ، فَشَكُوا ألَم الجِرَاحِ ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ } أي لا تَضْعُفُوا في طلب أبِي سُفْيَان وأصْحَابَهُ ، { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } : تتوجَّعُون من الجِرَاح ، " فإنَّهُمْ يَألَمُون " أي : يتوجَّعُونَ كما تألمون ، والمَعْنَى : أنَّ حصُول الألَمِ قدر مُشْتَركٌ بينكم وبَيْنَهُم ، فلمَّا لم يَكُنْ خوف الألَمِ مانِعاً لَهُم عن قِتَالِكُم ، فكيف يَصير مَانِعاً لكم عن قِتَالِهِم .

قرأ يَحْيَى بن وَثَّاب ، ومنصور بن المُعْتَمِر : " تِئلمون فإنهم يِئلمون كما تِئلمون " بكسر حَرْفِ المُضارَعَةِ ، وابن{[9616]} السَّمَيْفَع : بكسر تَاءِ الخطَاب فقط ، وهذه لُغَةٌ ثَابِتَة ، وقد تقدم في الفَاتِحَة أنَّ مَنْ يَكْسِرُ حَرفَ المُضَارعة يَسْتَثْني التَّاء ، وتقدم شُذُوذ " تِيجَل " ووجْهه ، وزاد أبُو البقاء{[9617]} في قِرَاءة كَسْر حَرْف المُضَارعة قَلْبَ الهَمْزَة ياءً ، وغيرُه أطلق ذلك .

وقرأ الأعْرَج{[9618]} : " أن تَكُونُوا تألَمون " بفتح هَمزة " أنْ " والمعنى : ولا تَهِنُوا لأنْ تَكُونوا تألمون .

وقوله : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } تعليل قوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } [ أي : وأنتم مع ذَلِكَ تأمَلُون من الأجْر والثواب في الآخرة ، والنَّصَر في الدُّنْيَا ما لا يَرْجُون ]{[9619]} ، فأنتم أوْلَى بالمُصَابَرةِ على القِتَال من المُشْرِكين ؛ لأن المُؤمِنِين مُقِرُّون بالثَّوَاب والعِقَابِ ، والحَشْر والنَّشر ، والمُشْرِكون لا يقرون بذلِك ، فإذا كانُوا مع إنْكَارِهِم ذلك مُجِدِّين في القِتَالِ ، فأنتم أيُّهَا المؤمِنُون المُقِرُّون بأنَّ لكم في الجِهَادِ ثَوَاباً ، وعليكم في تَرْكِهِ عِقَاباً أوْلَى بالجِدَّ في الجَهَادِ .

وقال بَعْض المُفَسِّرين{[9620]} : المراد بالرَّجَاء : الخَوْف ؛ لأنَّ كل رَاج خَائِفٌ ألاَّ{[9621]} يُدْرِك مأمُولَهُ ، ومعنى الآيَة وترجُونَ ، أي : تَخَافُون من عَذَاب اله ما لا يَخَافُون . قال الفرَّاء{[9622]} : ولا يكون الرَّجَاءُ بمعنى الخَوْف إلا مع الجدِّ ؛ كقوله - تعالى - :

{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } [ الجاثية : 14 ] ، [ أي : لا يَخَافُون ]{[9623]} ، وقال - تعالى - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تَخَافُون للَّه عِظَة ، ولا يجُوز : رَجَوْتُك ، يَعْنِي : خِفْتُك ، ولا خفتك ، وأنت تُرِيد : رَجَوْتُك .

قال ابن الخَطِيب{[9624]} : ويُحْتَمَل أنَّكم تَعْبُدون الإله ، العَالِم القَادِر ، السَّمِيع ، البَصِير ، فيصحُّ منكم أنْ تَرْجُوا ثَوَابَه ، وأما المُشْرِكُون : فإنَّهم يَعبدون الأصْنَام وهي جَمادَات ؛ فلا يَصِحٌّ منهم أنْ يَرْجُوا منها ثَوَاباً ، أو يَخَافُوا منها عِقَاباً .

ثم قال : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : لا يُكَلِّفُكُم إلاَّ ما يَعْلَم أنَّه سَبَب لِصَلاحِ دِينكُم ودُنْيَاكُم ، وقد تقدم [ أنَّه إذا ]{[9625]} ذكر " الحَكِيم " بعد قوله : " العَلِيم " فالمرادَ بالحَكيم : أنه العَالِمُ بَعَواقِب الأمُور ، وقالت المُعْتَزِلَةُ : المُرادُ بالحَكِيم : هو الَّذِي يضع الأسْبَاب للمصَالِح .


[9613]:ينظر: البحر المحيط 3/357، والدر المصون 2/423.
[9614]:ينظر: البحر المحيط 3/357، والدر المصون 2/423.
[9615]:سقط في أ.
[9616]:ينظر في قراءات هذا الفعل: المحرر الوجيز 2/108، والبحر المحيط 3/357، والدر المصون 2/423.
[9617]:ينظر: الإملاء 1/193.
[9618]:ينظر: القراءة السابقة.
[9619]:سقط في أ.
[9620]:ينظر: تفسير البغوي 1/477.
[9621]:في أ: أي.
[9622]:ينظر: تفسير البغوي 1/477.
[9623]:سقط في ب.
[9624]:ينظر: تفسير الرازي 11/26.
[9625]:سقط في أ.