أحدهما : أنَّه لما أمَرَ المُؤمِنِين بالجهاد ، أمَرَهُمْ أيضاً بأن الأعْدَاء لو رَضُوا بالمُسَالَمَةِ{[9070]} فكونوا أنْتُم [ أيضاً ]{[9071]} رَاضِين بها ، فقوله{[9072]} : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } كقوله - تعالى - : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
والثَّانِي : أن الرَّجُل [ في الجِهَاد ]{[9073]} كان يلْقَّاهُ الرَّجُل في دَارِ الحَرْبِ أو ما يُقارِبُها ، فَيُسَّلمُ عليه فقد لا يَلْتَفِتُ إلى سلامِهِ [ ويقتله ]{[9074]} ، وربَّمَا ظَهَر أنَّهُ كان مُسْلِماً ، فأمرهم بأن يُسَلِّم عليهم أو يُكْرِمهم ، فإنهم يقابلونه بمثل ذَلِكَ الإكْرَام أو أزْيَد ، فإن كان كَافِراً ، لم يَضُرَّ المسلم مُقَابَلَة إكْرَام ذلك الكَافِر بنوع من الإكْرَام ، وإن كان مسلماً فَقَتَلَه ، ففيهِ أعْظَم المَضَارِّ والمفَاسِدِ ، ويقال : التحية [ في الأصْلِ ]{[9075]} : البَقَاءِ والمِلْكُ .
قال القُرْطُبِي{[9076]} : قال عبد الله بن صَالحِ العِجْليّ : سألت الكسَائِيُّ عن قوله : " التحيات لله " ما مَعْنَاهَا ؟ فقال : التَّحِيَّاتُ مثل البَرَكَاتِ ، قلت : ما معنى " البَركات " ؟ فقال : ما سَمِعْت{[9077]} فيها شَيْئاً ، وسألْتُ عنها مُحَمَّد بن الحسن [ فقال ]{[9078]} : هو شَيْءٌ تعبّد الله به عبادَهُ ، فقدِمْتُ الكُوفَة فلقيت عَبْدَ الله بن إدْرِيس ، فقلت : إني سَألْت الكسَائيَّ ، ومحمَّد عن قَوْله : " التحيات لله " فأجَابَنِي بكذا وكذا ، فقال عَبْد اللَّه بن إدْرِيس : إنه لا عِلْم لهما بالشَّعْرِ وبهذه الأشْيَاءِ ، التَّحِيَّة : المُلك وأنْشَدَهُ : [ الوافر ]
أؤمُّ بِهَا أبَا قَابُوسَ حَتى *** أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجُنْدِي{[9079]}
وَلِكُلِ مَا نَالَ الفَتَى *** قَدْ نِلْتُهُ إلاَّ التَّحِيَّهْ{[9080]}
ويقال : التَّحِيَّة : البَقَاء والمُلْك ، ومنه : " التحيات لله " ، ثم استُعملت في السلام مَجَازاً ، ووزنها ، تَفْعِلة من حَيَّيْت ، وكان في الأصْل :تحيية ؛ مثل : تَوْصية وتَسْمِيَة ، والعرب تؤثر التَّفْعِلة على التَّفْعيلِ [ في ]{[9081]} ذَوَاتِ الأرْبَع ؛ نحو قوله : { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ }
والأصل : تَحْيِِيَة فأدغمت ، وهذا الإدغَامُ واجبٌ خِلافاً للمَازِني ، وأصْل الأصْل تَحْيِيُّ ؛ لأنه مَصْدُر حَيّا ، وحَيّا : فَعَّل ، وفَعَّل مَصْدره على التَّفْعِيل ، إلا أن يَكُون مُعْتَلَّ اللامِ ؛ نحو : زكَّى وغَطَّى ، فإنه تحذف إحْدَى اليَاءَيْن ويعوَّض منها تَاء التَّأنيثِ ؛ فيقال : تَزْكِيه وتغْطِيَة ، إلا ما شَذَّ من قوله : [ الرجز ]
بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا *** كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا{[9082]}
إلا أن هذا الشُّذُوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو : " حَيّا " لاعتلالِ عَيْنه ولامه باليَاءِ ، وألحق بعضُهم ما لامُه هَمْزَةٌ بالمُعْتَلِّها ، نحو : " نَبّأ تَنْبئةً " و " خَبَّأ تَخْبِئَةً " ؛ ومثلها : أعيِيَة وأعيَّةٌ ، جمع عَيِيٍّ .
وقال الرَّاغِب{[9083]} : وأصلُ التَّحِيَّة من الحياة ، ثم جُعِل كلُّ دُعَاءٍ تحيّةً ؛ لكون جميعه غير خَارجٍ عن حُصُولِ الحياة أو سَبَبِ الحَيَاةِ ، وأصل التحية أن تَقُول : " حياك الله " ثم اسْتُعْمِل في الشَّرْعِ في دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ .
وجعل التحيَّة اسْماً للسَّلام ؛ قال : - تعالى - : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، ومنه قول المُصَلِّي : " التحيات لله " أي : السَّلامة من الآفاتِ للَّه .
1854أ- حُيِّيت مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ *** . . . {[9084]}
1854ب- إنَّا مُحَيُّوك يا سَلْمَى فَحيِّينَا *** . . . {[9085]}
فصل في أفضلية " السلام عليكم "
واعلمْ أن قول القائِل لغيْره : السَّلام عليك ، أتم من قوله : حَيَّاك الله ؛ لأن الحَيَّ إذا كان حَليماً كان حَيًّا لا محالة ، وليس إذا كان حَيَّا كان سَلِيماً ؛ لأنَّه قد تكون حَيَاتُه مقرونَة بالآفاتِ ، وأيضاً فإن السلام اسم من أسْمَاء الله - تعالى - ، فالابْتِدَاء بِذِكْر الله - تعالى - أجْمَل من قوله : حيَّاك الله ، وأيضاً : فَقَوْل الإنْسَان لغيره : السلام عَلَيْكَ ، بشارة لَهُ بالسَّلام ، وقوله حيَّاك الله لا يُفِيد ذَلِك ، قالوا : ومَعنى قوله : السلام عليك ، أي : أنْت سَلِيمٌ مِنِّي فاجعلني سَلِيماً مِنْك ، ولهذا كَانَت العَرَبُ إذا أسَاء بعضهم لم يَردُّوا السلام ، فإن ردُّوا عليهم السلام ، أمِنُوا من شرِّهم ، وإن لم يَرُدُّوا عليهم السلام ، لم يؤمنوا شَرَّهُم .
فصل في الوجوه الدَّالة على أفضلية السّلاَم
ومما يدل على أفْضَلِيَّة السلام : أنَّه من أسْمَاء الله - تعالى - ، وقوله - [ تعالى ]{[9086]} -
{ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ هِيَ } [ القدر : 5 ] ، وقوله :
{ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [ طه : 47 ] ، وقوله : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ }
[ النمل : 59 ] وقوله : { وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وقوله : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] ، وقوله :
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 90 ، 91 ] ، [ وقوله ]{[9087]} : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الزمر : 73 ] ، وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] وقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ }
[ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وأمَّا الأخْبَار : فرُوِي أن عبد الله بن سلام قال : " لمَّا سَمِعْت بقدوم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، دخَلْتُ في غِمَار{[9088]} النَّاسِ ، فأوَّل ما سَمِعْتُ مِنْهُ : " يا أيها الذين آمنوا ، أفْشُوا السَّلاَمَ وأطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاس نِيَامٌ تدخلون الجنة بسلام " {[9089]} .
وأما المَعْقُول : قال القتبي : إنما قال : " التحيات " على الجَمْعِ ؛ لأنَّه كان في الأرْضِ ملوك يُحَيَّوْن بِتَحِيَّاتٍ مختَلِفَات ، [ فيقال ]{[9090]} لبعضهم : أبيْت اللَّعْنَ ، ولبعضهم : اسْلَم وانْعَم ، ولبعضهم : عِش ألْفَ سَنَةٍ ، فقيل لَنَا : قولوا : التَّحِيَّات للَّه ، أي{[9091]} : الألْفَاظ الَّتِي{[9092]} [ تدلُّ ]{[9093]} على المُلْك ، ويكْنَى بها عن الله - تعالى - :
قالوا : تحية النَّصارَى وَضْع اليَدِ على الفَمِ ، وتَحِيّةُ اليهود بعضهم لبعض : الإشارَةُ بالأصَابع ، وتحيةُ المجُوس : الانْحِنَاء ، وتحيَّةُ العرب بعضهم لِبَعْض قَوْلهم حَيَّاك اللَّه ، وللمُلُوك أن يَقُولوا : انْعَمْ صَبَاحاً ، وتحيَّةُ المُسْلِمِين أن يقولوا : السلام عَلَيْكُم ورَحْمَة الله وبركاته ؛ وهذه أشرف التَّحِيَّاتِ ، ولأن السَّلام مشعِرٌ بالسَّلامة من الآفَاتِ ، والسَّعْيُ في تَحْصِيل الصَّون عن الضَّرر أوْلى من السَّعْي{[9094]} في تَحْصِيل النَّفْع .
وأيضاً فإن الوَعْد بالنَّفْع قد يقدر الإنْسَان على الوَفَاءِ به وقَدْ لا يَقْدِر ، وأما الوَعْد بترْك الضَّرَر ، فإنه يكون قَادِراً عليه لا مَحَالة ، والسَّلام يدلُّ عليْهِ .
من الناس من قال : السلامُ واجبٌ ؛ كقوله - تعالى - : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ [ عَلَى أَنفُسِكُمْ } ] {[9095]} [ النور : 61 ] ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " أفْشُوا السلام " والأمر للوُجُوب والمَشْهُور أنه سُنَّة . قال بعضهم : السلام سُنَّة على الكِفَايَة .
قوله : " فحيوا " أصل حيُّوا : حَييوا فاستثقلت الضَّمَّةُ على اليَاءِ ، فحُذِفَت الضَّمةُ فالتقى ساكنان : الياءُ والواو ، فحُذِفَتْ اليَاءُ ، وضُمَّ ما قبل الوَاوِ .
وقوله : { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } أي : بتحيَّةٍ أحْسَن من تِلْك التَّحِيَّة الأوْلَى .
وقوله : { أَوْ رُدُّوهَآ } أي رُدُّوا مِثْلَها ؛ لأن رَدَّ عينها مُحالٌ فَحذفَ المُضَافُ ، نحو :
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] .
مُنْتَهى الأمْر في السَّلام أن يُقَال : السَّلام عليْكُم ورَحْمَة الله وبَركاته ؛ بدليل أن هَذَا القَدْر هو الوَارِدُ في التَّشَهُّد .
قال العلماء : الأحْسَن أن المُسْلِم إذا قَال : السلام علَيْك ، رَدَّ في جوابه بالرَّحْمَة{[9096]} ، وإذا ذكر السلام والرَّحْمة في الابْتِدَاءِ ، زِيدَ في جَوابِه البَرَكَة وإذا ذكر الثلاثة{[9097]} في الابتداء ، أعادها{[9098]} في الجَوَاب .
رُوي : " أن رَجُلاً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم السلام عليك يا رسُول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعَلَيْك السلام ورحْمَة اللَّه وبَرَكَاته ، وآخر قال : السلام عليك وَرَحْمة الله ، فقال : وعليك السَّلام ورَحْمَة اللَّه وبركاته ، وجاء ثَالثٌ وقال : السَّلام عليك وَرحْمَة اللَّه وبركَاتُه : فقال - عليه الصلاة والسلام - : " وعَلَيْك السلام ورَحْمَة اللَّه وبَرَكَاتُه " فقال الرَّجل : نقصتني فأين قول الله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } فقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما تَرَكْتَ لِي فَضْلاً فَرَدَدْنَا عَلَيْكَ مَا ذَكَرْت " {[9099]} .
وقيل : معنى قوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } إذا كان الذي يُسَلِّم مُسْلِماً ، " أو ردوها " رُدُّوا مثلها إذا كان غَيْر مُسْلِمٍ .
يقول المُبْتَدِئ : السلام عليكم ، والمجيب يَقُول : وعليْكُم السلام ، وإن شاء المُبْتَدِئُ قال : سلامٌ عَلَيْكم ؛ لأن التَّعْرِيف والتَّنْكير ورد في ألفاظِ القُرْآن كما تَقَدَّم ، لكن التَّنْكِير أكْثَر والكل جَائِزٌ ، وأما في التَّحْليل{[9100]} من الصَّلاة ، فلا بُدَّ من الألف واللامِ بالاتِّفَاقِ .
قال - عليه الصلاة والسلام - : " السُّنَّة أن يُسلِّم الرَّاكِب على المَاشي{[9101]} ، وراكب الفَرَسِ على رَاكِب الحِمَارِ ، والصَّغير على الكَبِير ، والأقَلُّ على الأكْثَر ، والقَائِم على القَاعِد " والسُّنَّةُ الجَهْر بالسَّلام ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " أفْشُوا السَّلام " قال أبو يوسف : من قال لأخَرٍ : أقْرئ فلاناً مِنِّي السلام وَجَب عليه أنْ يَفْعَل{[9102]} .
السُّنة : إذا اسْتَقْبلك رَجَلٌ واحد فقل : سلامٌ عليْكُم ، واقْصِد الرَّجُل والملكَيْن ؛ فإنهما يَرُدَّان السلام عليك ، ومن سَلَّم عليه المَلَكُ فقد سَلِمَ من عَذَابِ الله - تعالى - ، وإذا دَخَلْت بَيْتاً خَالِياً ، فَسَلِّم على من فيه من مُؤمِِنِي الجِنِّ ، والسُّنَّة أن يَكُون المُبْتَدِئ بالسَّلام على طَهَارَةٍ وكذلك{[9103]} المُجِيبُ .
روي أن رجلاً سلَّم على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو على قَضَاء الحَاجَةِ ، فقام وتَيَمَّمَ ثم رَدَّ السلام{[9104]} ، والسُّنَّةُ إذا الْتَقَى الرَّجُلاَن المبادرة بالسَّلام .
فصل : المواضع التي لا يُسلَّم فيها
فأما المواضع التي لا يسَلَّم فيها ثمانيةٌ :
الأوَّل : قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا تبدَءُوا اليَهُود بالسَّلام " {[9105]} ، ورخَّصَ بَعْضَ العُلَمَاءِ في ذلك إذا دَعَت إليه حَاجَة ، وأما إذا سَلَّمُوا علينا ، فقال أكْثَر العُلَمَاءِ : ينبغي أن يُقَال : وعليْكَ ؛ لأنَّهم كانوا يَقُولون عِنْد الدُّخُولِ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - السَّامُ عَلَيْك ، فكان - عليه السلام - يَقُول : وعَلَيْكُم{[9106]} ، فجرت السُّنَّةُ بذلك ، فإذا قُلْنَا : وعليْكُم السَّلام ، فهل يجوز ذِكْر الرَّحْمَة ؟ قال الحَسَن : يجُوز أن يُقال للكافِرِ : وعَلَيْكُم السلامَ ، ولكن لا يُقَال : ورَحْمَة اللَّهِ ؛ لأنها اسْتِغْفَارٌ .
وعن الشَّعبيِّ ؛ أنه قال لِنَصْرانيّ وعليْك السَّلام ورَحْمَة اللَّه ، فقيل له فيه{[9107]} ، فقال : ألَيْس في رَحْمَة اللَّه [ يَعِيشُ ]{[9108]} .
الثاني : إذا دَخَل يوم الجُمْعَة والإمَامُ يَخْطُب ، فلا يَنْبَغي أن يُسَلِّم ؛ لاستغال النَّاس بالاسْتِمَاع ، فإن سَلَّم فرد بَعْضُهُم فلا بَأس ، ولو اقْتَصَرُوا على الإشَارة ، كان أحْسَن .
الثالث : إذا دخل الحَمَّام [ فرأى ]{[9109]} النَّاس متَّزرين يُسَلِّم عليهم ، وإن لم يكُونُوا متَّزرين ، لم يُسَلِّم عليهم .
الرابع : ترك السَّلام على القَارِئ ؛ لأنه يقطع عليه التِّلاوة ؛ وكذلك روايَة الحَدِيث .
الخَامِس : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بالأذَان والإقَامَةِ .
السادس : لا يسَلَّم [ على ]{[9110]} لاعب النَّرْدِ ، ولا المغَنِّي ، ولا مُطَيِّر الحَمَامِ ، ولا المشتغل بِمَعْصِيَة اللَّهِ .
السَّابِع : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بقضاء الحَاجَةِ ؛ لما تقدّم من الحَدِيث ، وقال في آخِرِه : " لَولاَ أنِّي خَشِيتُ أنْ يَقُولَ : سَلَّمْت علَيْه فَلَمْ يَرُدَّ الجَوَاب ، وإلا لَمَا أجِبْتُك ، إذا رَأيْتَنِي على هذه الحَالَةِ ، فلا تُسَلِّم ، فإنك إن سَلَّمْت لم أرُدَّ عَلَيْك " .
الثَّامن : إذا دخل الرَّجُل بَيْتَه فَيُسَلِّم على امْرأته ، وإن حَضَرت أجْنَبِيَّة ، [ لم ]{[9111]} يسلم عَلَيْهِمَا .
قال القرطبي : ولا يُسَلِّم على النِّسَاء الشَّابات الأجَانِب ؛ خوف الفِتْنَة من مُكَالَمَتِهِن بنزعة شَيْطَانٍ أو خائنة عَيْنٍ ، وأما المَحَارِمُ والعجائز فَحَسَنٌ .
والرَّدُّ فرض كِفَايَة ؛ إذا قام به البَعْض سَقَطَ عن البَاقِين ، والأوْلى للكُلِّ أن يحيُّوا ؛ إذ{[9112]} الرد وَاجِبٌ [ على الفَوْر ]{[9113]} فإن أخَّر حتى انْقَضى الوَقْت ، وأجابه بعد فَوْت [ الوقت ]{[9114]} ، كان ابْتِداء سَلاَمٍ ولا جَوَاباً ، وإذا وَرَد السلام في كِتَاب ، فجوابه وَاجِبٌ بالكِتَاب أيْضاً للآية ، وإذا سَلَّمت المَرْأة الأجْنَبيَّة عَلَيْه ، وكان في رد الجَوَابِ عليها تُهْمَةٌ أو فِتْنَةٌ ، لم يجب الردّ ، بل الأوْلَى ألا يفعل وحيث قُلْنَا : لا يُسَلِّم ، فلو سَلَّم لم يجب الرَّدُّ ؛ لأنه أتَى بِفِعْل منهِيٍّ عَنْه ، فكان وجوده كَعَدَمِه .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }
قيل : الحَسيب بمعنى المُحَاسِبِ على العَمَل ؛ كالأكيل والشَّرِيب والجَليسِ ، بمعنى : المؤاكِل والمُشَارِب والمُجَالِس ، أي : على كل شَيْءٍ من ردِّ السلام بِمثلِهِ وبأحْسن مِنْهُ ، " حسيباً " : أي : مُحَاسِباً ومُجَازِياً ، وقيل : بمعنى الكَافِي من قَوْلهم : حَسْبي كَذَا ، أي : كافياً ، قاله أبُو عُبَيْدَة ؛ ومنه قوله تعالى : { حَسْبِيَ اللَّهُ } [ التوبة : 129 ] ، وقال مُجَاهِد : حَفِيظاً .