اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

قوله : { أَلَمْ يَأْنِ } .

قرأ العامة : «ألم » . وقرأ الحسن{[55345]} وأبو السمال : «ألمَّا » .

وأصلها «ألم » زيدت عليها «ما » ، فهي نفي كقول القائل : قد كان كذا ، و«لم » نفي ، كقوله : قد كان كذا .

وقوله : { أَن تَخْشَعَ } . فاعل «يأن » ، أي : ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحينُ{[55346]} ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

ألَمْ يَأنِ لِي يا قَلْبُ أنْ أتْرُكَ الجَهْلاَ *** وأنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُبِيْنُ لنَا عَقْلا{[55347]}

وماضيه «أنى » بالقصر «يأني » .

ويقال : «آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يَئِينُ أيْناً » أي : مثل «أنى لَكَ » وهو مقلوب منه .

وأنشد ابن السِّكِّيت : [ الطويل ]

ألَمَّا يَئِنْ لِي أنْ تُجَلَّى عَمايَتِي *** وأقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أنَى لِيَا{[55348]}

فجمع بين اللغتين .

وقرأ العامة : «يأن » مضارع «أنى » أي : حان وقرب ، مثل رمى يرمي .

والحسن{[55349]} : «يئن » مضارع «آن » بمعنى «حان » أيضاً ، مثل : «باع يبيع » .

و«اللام » للتبيين . قاله أبو البقاء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : أعني للذين .

فصل في نزول هذه الآية

في «صحيح مسلم » ، عن ابن مسعُود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } إلا أربع سنين .

قال الخليل{[55350]} : العِتَاب مخاطبة الإذلال ، ومذاكرة الموجدة . تقول : عاتبت معاتبة .

«أن تخْشعَ » ، أي : تذل وتلين { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } .

«وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا ب «المدينة » فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : «إنَّ الله يَسْتَبْطِئكُمُ بالخُشُوعِ » فقالوا عند ذلك : خشعنا{[55351]} .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن{[55352]} .

وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة ، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة ، فنزلت : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } إلى قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره ، وأنفع لهم ، فكفُّوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول ، فنزلت : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } [ الآية ، فعلى هذا التأويل يكون { فالذين آمَنُواْ } في العلانية باللسان ]{[55353]} .

وقال السُّدي وغيره : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } بالظَّاهر وأسرُّوا الكفر { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } .

وقيل : نزلت في المؤمنين .

قال سعد : قيل : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ فنزل : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا ، فنزل قوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا ، فأنزل الله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } الآية .

وقيل{[55354]} : هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد - عليهم الصلاة والسلام - لأنه قال عقيبه : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } أي : ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن ، وألاَّ يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى ؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم ، فقَسَتْ قلوبهم .

قوله : { وَمَا نَزَلَ } .

قرأ نافع وحفص : «نَزَل » مخففاً مبنيًّا للفاعل .

وباقي السبعة كذلك إلاَّ{[55355]} أنها مشددة .

والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية{[55356]} : «ما نزّل » مشدداً مبنيًّا للمفعول .

وعبد الله{[55357]} : «أنْزَل » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى .

و«ما » في قراءة «ما نزل » مخففاً ، يتعين أن تكون اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل ، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي » .

فإن قلت{[55358]} : فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلاَّ يخلو الفعل من مرفوع ؟ فالجواب : أن الجار وهو قوله : «من الحقّ » يقوم مقام الفاعل .

فصل في معنى الآية

قال ابن الخطيب{[55359]} : يحتمل أن يكون المراد بذكر الله ، وما نزل من الحق هو القرآن ؛ لأنه جامع للوصفين الذِّكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقاً ، و{ ما نزل من الحقّ } هو القرآن ، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن ؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى ، فأما حصولها عند سماع القرآن ، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله .

قوله : { وَلاَ يَكُونُواْ } .

قرأ العامة : بالغيبة جرياً على ما تقدم .

وأبو حيوة ، وابن أبي{[55360]} عبلة : ب «التاء » من فوق على سبيل الالتفات .

قال القرطبي{[55361]} : وهي رواية رويس عن يعقوب ، وهي قراءة عيسى ، وابن إسحاق .

ثم هذا يحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على «يخشع » كما في قراءة الغيبة ، وأن يكون نهياً ، فتكون «لا » ناهية والفعل مجزوم بها .

ويجوز أن يكون نهياً في قراءة الغيبة أيضاً ، ويكون ذلك انتقالاً إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو «لا يَقُمْ زيد »{[55362]} .

قوله : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } .

قرأ العامة : بتخفيف الدال بمعنى الغاية ، كقولك : أمد فلان ، أي : غايته .

وقرأ ابن كثير في{[55363]} رواية بتشديدها ؛ وهو الزمن الطَّويل .

فصل في معنى الآية{[55364]}

معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل ، فطالت الأزمان لهم .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمدُ قست قلوبهم ، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتَّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، فإن أبى قتلناه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقةٍ ، وجعلها في عنقه ، ثم لبس عليه ثياباً وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره وقال : آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ ملة ] ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن{[55365]} ؛ قال عبد الله : ومن يَعِشْ منكم فسيرى منكراً ، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كارهٌ .

وقال مقاتل : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمدُ ، واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني : الذين ابتدعوا الرَّهبانية أصحاب الصوامع{[55366]} .

وقيل : من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه ، ويخالف من يعلم .

[ وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى ، وقال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا ، وأعرضوا عن مواعط الله{[55367]} .

وقيل : ] {[55368]} طالت أعمارهم في الغفلة ، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب .

[ وقيل غير ذلك .

وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، ] {[55369]} وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفِسْقِ في آخر الأمر .


[55345]:وروي عن الحسن أنه قرأ "ألم يين"، المحرر الوجيز 5/264، والبحر المحيط 8/222، والدر المصون 6/277، والقرطبي 17/161، وإتحاف 2/522.
[55346]:ينظر: القرطبي (السابق).
[55347]:ينظر: القرطبي 17/161.
[55348]:ينظر: القرطبي 17/161.
[55349]:ينظر: المحرر الوجيز 5/264، والكشاف 4/477، والبحر المحيط 8/222، والدر المصون 6/277.
[55350]:ينظر: القرطبي 17/248.
[55351]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/254) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
[55352]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/254) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
[55353]:سقط من أ.
[55354]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 17/162.
[55355]:ينظر: السبعة 626، والحجة 6/273، 274، وإعراب والقراءات 2/351، وحجة القراءات 700، والعنوان 186، وشرح شعلة 598، وشرح الطيبة 6/40، وإتحاف 2/522.
[55356]:ينظر السابق، والمحرر الوجيز 5/264، والبحر المحيط 8/222، والدر المصون 6/277، والتخريجات النحوية 277.
[55357]:السابق.
[55358]:ينظر: الدر المصون 6/277.
[55359]:التفسير الكبير 29/200.
[55360]:ينظر: المحرر الوجيز 5/264، وقال ابن عطية: "وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم ولا تكونوا بالتاء على مخاطبة الحضور". وينظر: البحر المحيط 8/222، والدر المصون 6/227، وإتحاف فضلاء البشر 2/522.
[55361]:الجامع لأحكام القرآن 17/162.
[55362]:الدر المصون 6/277.
[55363]:ينظر: البحر المحيط 8/222، والدر المصون 6/277.
[55364]:ينظر: القرطبي 17/162.
[55365]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/255) وعزاه إلى سعيد بن منصور والبيهقي في "شعب الإيمان".
[55366]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/162).
[55367]:ينظر: المصدر السابق.
[55368]:سقط من أ.
[55369]:سقط من أ.