قرأ العامة : «ألم » . وقرأ الحسن{[55345]} وأبو السمال : «ألمَّا » .
وأصلها «ألم » زيدت عليها «ما » ، فهي نفي كقول القائل : قد كان كذا ، و«لم » نفي ، كقوله : قد كان كذا .
وقوله : { أَن تَخْشَعَ } . فاعل «يأن » ، أي : ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحينُ{[55346]} ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
ألَمْ يَأنِ لِي يا قَلْبُ أنْ أتْرُكَ الجَهْلاَ *** وأنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُبِيْنُ لنَا عَقْلا{[55347]}
وماضيه «أنى » بالقصر «يأني » .
ويقال : «آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يَئِينُ أيْناً » أي : مثل «أنى لَكَ » وهو مقلوب منه .
وأنشد ابن السِّكِّيت : [ الطويل ]
ألَمَّا يَئِنْ لِي أنْ تُجَلَّى عَمايَتِي *** وأقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أنَى لِيَا{[55348]}
وقرأ العامة : «يأن » مضارع «أنى » أي : حان وقرب ، مثل رمى يرمي .
والحسن{[55349]} : «يئن » مضارع «آن » بمعنى «حان » أيضاً ، مثل : «باع يبيع » .
و«اللام » للتبيين . قاله أبو البقاء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : أعني للذين .
في «صحيح مسلم » ، عن ابن مسعُود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } إلا أربع سنين .
قال الخليل{[55350]} : العِتَاب مخاطبة الإذلال ، ومذاكرة الموجدة . تقول : عاتبت معاتبة .
«أن تخْشعَ » ، أي : تذل وتلين { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } .
«وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا ب «المدينة » فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : «إنَّ الله يَسْتَبْطِئكُمُ بالخُشُوعِ » فقالوا عند ذلك : خشعنا{[55351]} .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن{[55352]} .
وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة ، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة ، فنزلت : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } إلى قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره ، وأنفع لهم ، فكفُّوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول ، فنزلت : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } [ الآية ، فعلى هذا التأويل يكون { فالذين آمَنُواْ } في العلانية باللسان ]{[55353]} .
وقال السُّدي وغيره : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } بالظَّاهر وأسرُّوا الكفر { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } .
قال سعد : قيل : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ فنزل : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا ، فنزل قوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا ، فأنزل الله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } الآية .
وقيل{[55354]} : هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد - عليهم الصلاة والسلام - لأنه قال عقيبه : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } أي : ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن ، وألاَّ يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى ؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم ، فقَسَتْ قلوبهم .
قرأ نافع وحفص : «نَزَل » مخففاً مبنيًّا للفاعل .
وباقي السبعة كذلك إلاَّ{[55355]} أنها مشددة .
والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية{[55356]} : «ما نزّل » مشدداً مبنيًّا للمفعول .
وعبد الله{[55357]} : «أنْزَل » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى .
و«ما » في قراءة «ما نزل » مخففاً ، يتعين أن تكون اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل ، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي » .
فإن قلت{[55358]} : فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلاَّ يخلو الفعل من مرفوع ؟ فالجواب : أن الجار وهو قوله : «من الحقّ » يقوم مقام الفاعل .
قال ابن الخطيب{[55359]} : يحتمل أن يكون المراد بذكر الله ، وما نزل من الحق هو القرآن ؛ لأنه جامع للوصفين الذِّكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقاً ، و{ ما نزل من الحقّ } هو القرآن ، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن ؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى ، فأما حصولها عند سماع القرآن ، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله .
قرأ العامة : بالغيبة جرياً على ما تقدم .
وأبو حيوة ، وابن أبي{[55360]} عبلة : ب «التاء » من فوق على سبيل الالتفات .
قال القرطبي{[55361]} : وهي رواية رويس عن يعقوب ، وهي قراءة عيسى ، وابن إسحاق .
ثم هذا يحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على «يخشع » كما في قراءة الغيبة ، وأن يكون نهياً ، فتكون «لا » ناهية والفعل مجزوم بها .
ويجوز أن يكون نهياً في قراءة الغيبة أيضاً ، ويكون ذلك انتقالاً إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو «لا يَقُمْ زيد »{[55362]} .
قوله : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } .
قرأ العامة : بتخفيف الدال بمعنى الغاية ، كقولك : أمد فلان ، أي : غايته .
وقرأ ابن كثير في{[55363]} رواية بتشديدها ؛ وهو الزمن الطَّويل .
فصل في معنى الآية{[55364]}
معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل ، فطالت الأزمان لهم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمدُ قست قلوبهم ، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتَّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، فإن أبى قتلناه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقةٍ ، وجعلها في عنقه ، ثم لبس عليه ثياباً وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره وقال : آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ ملة ] ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن{[55365]} ؛ قال عبد الله : ومن يَعِشْ منكم فسيرى منكراً ، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كارهٌ .
وقال مقاتل : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمدُ ، واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني : الذين ابتدعوا الرَّهبانية أصحاب الصوامع{[55366]} .
وقيل : من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه ، ويخالف من يعلم .
[ وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى ، وقال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا ، وأعرضوا عن مواعط الله{[55367]} .
وقيل : ] {[55368]} طالت أعمارهم في الغفلة ، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، ] {[55369]} وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفِسْقِ في آخر الأمر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.