قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } .
يجوز في قوله : { والذين تبوّءوا الدار } وجهان{[55933]} :
أحدهما : أنه عطف على «الفقراء » فيكون مجروراً ، ويكون من عطف المفردات ، ويكون «يحبون » حالاً .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره «يُحبُّون » ويكون حينئذ من عطف الجمل .
وفي قوله : «والإيمان » . ستة أوجه :
أحدها : أنه ضمن «تَبَوَّءوا » معنى لزموا ، فيصح عطف الإيمان عليه ، إذ الإيمان لا يتبوأ .
الثاني : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا ، كقوله : [ الرجز ]
عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55934]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا{[55935]}
الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان ، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه ، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة . وفيه خلاف مشهور .
الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة ، ودار الإيمان ، فأقام «لام » التعريف في «الدار » مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه .
الخامس : أن يكون سمى «المدينة » ؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان .
قال بهذين الوجهين الزمخشري{[55936]} .
وليس فيه إلاَّ قيام «ال » مقام المضاف إليه ، وهو محل نظر ، وإنما يعرف الخلاف ، هل يقوم «ال » مقام الضمير المضاف إليه ؟ .
فالكوفيون يُجِيزُونه ، كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه .
[ والبصريون : يمنعونه ، ويقولون : الضمير محذوف ، أي : المأوى له ] {[55937]} .
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً .
السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معاً . قاله ابن عطية .
وقال{[55938]} : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله «من قبلهم » فتأمله .
قال شهاب الدين{[55939]} : «وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } [ يونس : 71 ] من باب إضمار الفعل ؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي ، إنما يقال : جمعت » .
فصل في المراد بهذا التبوء{[55940]}
«التَّبَوُّء » : التمكن والاستقرار ، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا «المدينة » قبل المهاجرين إليها ، والمراد بالدَّار : «المدينة » .
والتقدير : والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم .
قيل هذه الآية معطوفة على قوله : «للفقراء المهاجرين » وأن الآيات في «الحَشْر » كلها معطوفة بعضها على بعض .
قال القرطبي{[55941]} : ولو تأملوا ذلك ، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ؛ لأن الله - تعالى - يقول : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ } - إلى قوله - «الفاسقين » فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع ، ثم قال تعالى : { وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه ، وما تقدم فيهم من القتالِ ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر ، ثم قال تعالى : { مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، وهذا كلام غير معطوف على الأول ، وكذا { والذين تبوّءوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفَيْء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء ، وكذا { والذين جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ } ابتداء كلام ، والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } .
وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار } ، { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } معطوف على ما قبله ، وأنهم شركاء في هذا الفيء ، أي : هذا المال للمهاجرين ، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] .
ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ } حتى بلغ { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } ، { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ب «سَرْو حمير » نصيبه منها لم يعرق جبينه .
وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته ، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه ، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر » وتلا : { مَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } إلى قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } قال : ما هي لهؤلاء فقط ، وتلا قوله : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } إلى قوله { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك .
روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال : لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر{[55942]} .
وصح عن عمر أنه أبقى سواد «العراق » و«مصر » وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة ، وأرزاق الجيش والذَّراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم{[55943]} .
واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله ، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم «خيبر » ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها .
وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش .
وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } على ما تقدم أيضاً .
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار{[55944]}
اختلفوا في قسمة العقار ، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها ، أو وقفها لمصالح المسلمين .
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال ، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله ، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله .
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } مقطوعاً مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
قال القرطبي{[55945]} : «روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل «المدينة » على غيرها من الآفاق ، فقال : إن «المدينة » تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية » .
قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ } . فيه وجهان{[55946]} :
أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته . قاله الزمخشري{[55947]} .
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين ، وفي «أوتُوا » للمهاجرين .
والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد .
قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة ؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية .
وقال أبو البقاء{[55948]} : «الحاجة مس حاجة » . أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا ، فالضميران ل { الذين تبوّءوا الدار والإيمان } .
وقال القرطبي{[55949]} : «يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره ، كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا ، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة » .
قال القرطبي{[55950]} : كان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ » ، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا ، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ » وأعطى رسول الله للمهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم{[55951]} .
ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ } إذا كانوا قليلاً يقنعون به ، ويرضون عنه ، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا ، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : «سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ »{[55952]} .
قوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير : «إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً » . فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ، فنزل : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية{[55953]} .
قال ابن الخطيب{[55954]} : «وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام ، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات .
فذكر القرطبي{[55955]} : أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية »{[55956]} .
وخرجه مسلم أيضاً : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهودٌ ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ » فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله أنا ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج ، وذكر نحو الحديث الأول{[55957]} .
وفي رواية : فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله .
وذكر المهدوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته .
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا ، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها{[55958]} سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية .
وذكر الثعلبي عن أنس ، قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له ، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت الآية{[55959]} .
فصل في معنى الإيثار{[55960]}
الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها .
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ؟ .
فالجواب{[55961]} : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : { والصابرين فِي البأساء والضرّاء وَحِينَ البأس } [ البقرة : 177 ] .
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار .
كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : «يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس » انتهى .
فصل في الإيثار بالنفس{[55962]}
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس .
الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ *** والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ{[55963]}
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلتْ .
وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم «اليَرْموك » أطلب ابن عم لي [ ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ] ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل «بلخ » قدم علينا حاجًّا ، وقال : يا أبا اليزيد ، ما حد الزهد عندكم ؟ .
فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا .
فقال : هكذا كلاب «بلخ » عندنا .
فقلت : وما حدّ الزهد عندكم ؟ .
قال : إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا .
وسئل ذو النون المصري : ما حدُّ الزهد ؟ قال : ثلاث ، تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند الفوت .
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى «الري » ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج ، وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه .
قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
هذه واو الحال ، والخصاصة : الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهي فروجه ، وحال الفقير يتخللها النقص ، فاستعير لها ذلك{[55964]} .
وقال القرطبي{[55965]} : «أصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : انفراد بالحاجة ، أي : ولو كانت بهم فاقة وحاجة » .
أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ *** عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ{[55966]}
قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } .
العامة على سكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وابن أبي عبلة{[55967]} وأبو حيوة : بفتح الواو وتشديد القاف .
والعامة - بضم الشين - من «شح » ، [ وابن أبي عبلة ] {[55968]} وابن عمر{[55969]} - رضي الله عنهما - بكسرها .
قال القرطبي{[55970]} : الشُّحُّ والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة .
قال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ *** عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا{[55971]}
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل .
وفي «الصحاح »{[55972]} : الشح : البخل مع حرصٍ ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ ، ورجل شَحِيحٌ ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة .
والمراد بالآية : الشُّح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة ، وما شاكل ذلك ، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه .
روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجُلاً أتاه فقال : إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى - ، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً ، ولكن ذلك هو البخل ، وبئس الشيء البخل ، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل{[55973]} .
وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي النَّاس{[55974]} ، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع .
قال ابن زيد : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له{[55975]} .
وقال ابن جريج : الشح : منع الزكاة وادخار الحرام{[55976]} .
وقال ابن عيينة : الشح : الظلم{[55977]} .
وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم{[55978]} .
وقال ابن عباس : من اتبع هواه ، ولم يقبل الإيمان ، فذلك هو الشحيح{[55979]} .
وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه ، فقد وقاه الله شحَّ نفسه{[55980]} .
وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَرِئ مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ ، وأعْطَى في النَّائِبَة »{[55981]} .
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي ، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا »{[55982]} .
وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو : اللهم قني شُحَّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل ، فإذا الرجل عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه{[55983]} .
قال القرطبي{[55984]} : ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : «اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القِيَامةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ »{[55985]} .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً ، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً »{[55986]} .
وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرُّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقرُ ، فقال : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً .