اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ} (57)

قوله : { إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : على بيانِ أو بَصِيرةٍ وبُرهانٍ من ربي .

قوله : " وكَذَّبْتُم به " في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها مُسْتَأنَفَةُ سِيقَتْ للإخبارِ بذلك .

والثاني : أنها في مَحَل نصبٍ على الحالِ ، وحينئذٍ هل يحتاج إلى إضمار " قد " أم لا ؟

و " الهاء " في " به " يجوز أن تعود على " ربِّي " ، وهو الظاهر .

وقيل : على القرآن ؛ لأنه كالمذكور .

وقيل : على اسْتِعْجَالهِمْ بالعذاب ؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال :32 ] .

وقيل : على بيِّنةٍ ؛ لأنها في معنى البيانِ .

وقيل : لأن " التاء " فيها للمُبالغةِ ، والمعنى على أمرٍ بيِّنٍ من ربي .

و " مِنْ ربِّي " في محلِّ جَرِّ صِفَةً ل " بيِّنَةٍ " .

قوله : " ما عِنْدي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ " كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يخوِّفهم نزول العذاب ، فقال تعالى : قال يا محمَّد : ما عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ به ، يعني قولهم : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية .

وقيل : أراد به القِيامَةَ ؛ لقوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى :18 ] .

قوله : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ } أي : في تأخير عذابهم .

قوله : " يَقُصُّ الحقَّ " قرأ نافع ، وابن كثير{[14055]} ، وعاصم " يَقُصُّ " [ بصاد مهملة مشددة ]{[14056]} مرفوعة ، وهي قراءة ابن عبَّاسٍ ، والباقون بضادٍ{[14057]} معجمة مخففة مكسورة ، وهاتان في المتواتر .

وقرأ عبد الله ، وأبَيٌّ ، ويحيى{[14058]} بن وثَّابٍ ، والنخعي ، والأعمش ، وطلحة : " يَقْضِي بالحقِّ " من القضاءِ .

وقرأ سعيد بن جُبَيْرٍ{[14059]} ، ومجاهد : " يقضي بالحقِّ وهو خير القاضين " . فأمَّا قراءة " يقضي " فَمِنَ القضاء .

ويؤيده قوله : " وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ " فإن الفَصْلَ يناسب القضاء ، ولم يُرْسَمْ إلاَّ بضاد ، كأن " الباء " حذفت خطَّاً كما حذفت لَفْظاً لالتقاء الساكنين ، كما حُذِفَتْ من نحو : { فَمَا تُغْنِ النُّذُر } [ القمر :5 ] .

وكما حذفت " الواو " في { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [ العلق :18 ] ، { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } [ الشورى :24 ] كما تقد‍َّم .

وأمَّا قراءةُ نَصْبِ " الحقّ " بعدهُ ، ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مَنْصُوبٌ على أنه صِفَةٌ لمصدر مَحْذُوفٍ ، أي : يقضي القضاء الحقّ .

والثاني : أنه ضمَّن " يقضي " معنى " ينفذ " ، فلذلك عدَّاهُ إلى المفعول به .

الثالث : أن " قضى " بمعنى " صَنَع " فيتعدَّى بنفسه من غير تَضْمينٍ ، ويدُلُّ على ذلك قول الهُذَلِيّ شِعْراً : [ الكامل ]

وَعَليْهِمَا مَسْرُودتانِ قَضَاهُمَا *** دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ{[14060]}

[ أي : صنعهما ]{[14061]} داود .

الرابع : أنه على إسْقَاطِ حَرْفِ الجرِّ ، أي : يقضي بالحق ، فلما حذف انْتَصَبَ مَجْرُورُهُ على حَدِّ قوله : [ الوافر ]

تَمُرُّونَ الدِّيَار وَلَمْ تَعُوجُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14062]}

ويُؤيِّد ذلك القراءة بها الأصل .

وأمَّا قراءةُ " يَقُصُّ " فمن " قَصَّ الحديثَ " ، أو مِنْ " قَصَّ الأثَرَ " أي : تتبَّعه .

قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف :3 ] .

ورجَّحَ أبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ القراءة الأولى بقوله : " الفَاصِلينَ " وحُكِيَ عنه أنه قال : " أهُوَ يَقُصُّ الحقَّ أوْ يَقْضِي الحقَّ " فقالوا : " يَقُصُّ " فقال : لو كان " يَقُصُّ " لقال : " وهو خير القاصِّين " أقَرَأ أحَدٌ بهذا ؟ وحيث قال : وهو خير الفاصلين فالفَصْلُ إنما يكون في القضاءِ .

وكأن أبا عمرو لم يبلغه " وهو خير القاصين " قراءة ، وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره أبو العلاء ، فقال : " القَصَصُ " هنا بمعنى القولِ ، وقد جاء القول في الفَصْل أيضاً ، قال تعالى

{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق :13 ] .

وقال تعالى : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود :1 ] .

وقال تعالى : " ونُفَصِّلُ الآياتِ " فقد حمل الفَصْلَ على القول ، واستعمل معه كما جاء مع القضاءِ ، فلا يلزم من الفاصل أن يكون معيناً ل " يقضي " .

فصل في الاحتجاج بالآية لأهل السُّنة

أحتج أهل السُّنَّةِ بقوله : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ } على أنه لا يقدر العَبْدُ على أمر من الأمور إلاَّ إذا قَضَاهُ الله ، فيمتنع منه فعلُ الكُفْرِ إلا إذا قضى اللَّهُ وحكم به ، وكذلك في جميع الأفعال ؛ لأن قوله : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّه } [ يفيد الحصر ]{[14063]} .

واحتج المعتزلة بقوله : " يقضي الحق " ، ومعناه : أن كل ما قضى به فهو الحقّ ، وهذا يقتضي ألاَّ يريد الكفر من الكافر ، ولا المعصية من العاصي ؛ لأن ذلك ليس بحق{[14064]} ، والله أعلم .


[14055]:ينظر: الدر المصون 3/77، البحر المحيط 4/145، حجة القراءات ص (254)، النشر 2/258، إتحاف فضلاء البشر 2/14، الكشاف 2/30.
[14056]:سقط في أ.
[14057]:ينظر: الدر المصون 3/77، البحر المحيط 4/145، حجة القراءات ص (254)، النشر 2/258، إتحاف فضلاء البشر 2/14، الفراء 1/337 ـ 338، الزجاج 2/281 ـ 282، التبيان 1/501، الحجة لابن خالويه (140 ـ 141).
[14058]:ينظر: الدر المصون 3/77، البحر المحيط 4/146.
[14059]:ينظر: الدر المصون 3/77، البحر المحيط 4/146، الوسيط في تفسير القرآن المجيد 2/279، الحجة لأبي زرعة ص (254)، السبعة ص (259)، النشر 2/258، الفراء 1/337 ـ 338، إتحاف فضلاء البشر 2/14.
[14060]:تقدم.
[14061]:سقط في ب.
[14062]:تقدم.
[14063]:سقط في أ.
[14064]:ينظر: الرازي 13/7.