اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (18)

ف " مذؤوماً مَدْحُوراً " حالان من فاعل " اخرج " عند من يجيز تعدد الحال لذي حال واحدة ، ومَنْ لا يُجيز ذلك ف " مَدْحُوراً " صفة ل " مذؤوماً " أو هي حالٌ من الضَّمير في الجارِّ قَبْلَهَا ، فيكونُ الحالانِ مُتَدَاخِلَيْنِ .

و " مَذْءُوماً مَدْحُوراً " اسما مفعول مِنْ : ذَأمَهُ وَدَحَرَهُ . فأمَّا ذَأمَهُ فيقالُ : بالهمز : ذَأمَه ، يَذْأمُهُ كرَأمَه يَرْأمُهُ ، وذَامَهُ يَذِمُهُ كبَاعَه يَبِيعُهُ من غَيْر هَمْزٍ ، وعليه قولهم : " لنْ تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذَاماً " {[15879]} يروى بهمزةٍ ساكنةٍ أو ألف ، وعلى اللُّغَةِ الثَّانية قول الشاعر : [ الطويل ]

تَبِعْتُك إذْ عَينِي عَلَيْهَا غَشَاوَةٌ *** فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أذِيمُهَا{[15880]}

فَمَصْدَرُ المَهمُوز : ذأمٌ كرأس ، وأمَّا مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف ، وحكى ابْنُ الأنْبَارِيِّ فيه ذيماً كينعٍ قال : يقال : ذأمْتُ الرَّجُلَ أذْأمُه ، وذِمْتُه أذِيْمُه ذَيْماً ، وذَمَمْتُه أذُمُّه ذَماً بمعنىً ؛ وأنشد : [ الخفيف ]

وأقَامُوا حَتَّى أبِيرُوا جَمِيعاً *** فِي مقَامٍ وكُلُّهُمْ مَذْءُومْ{[15881]}

والذم : العَيْبُ ومنه المثلُ المتقدَّمُ : " لن تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذاماً " أي كُلُّ امرأة حسنة لا بدَّ أن يكون فيها عيب ما وقالوا : " أرَدْتَ أنْ تُذيمَهُ فمَدَهْتَهُ " أي : " تُعيُبُه فَمَدحْتَهُ " فأبدل الحاء هاء : وقيل : الذَّامُ : الاحتقارُ ، ذَأمْتُ الرجل : أي : احْتَقَرْتُهُ ، قاله الليثُ .

وقيل : الذَّامُ الذَّمُّ ، قاله ابن قيتبة وابن الأنْبَاريِّ ؛ قال أمّيَّةُ : [ المتقارب ]

وَقَالَ لإبْلِيسَ رَبُّ العِبَادِ *** [ أن ] اخْرُجُ لَعِيناً دَحِيراً مَذُومَا{[15882]}

والجمهور على " مَذْءُوماً " بالهمز .

وقرأ أبُوا جَعْفَرٍ والأعمشُ والزُّهْرِيُّ{[15883]} " مَذُوْماً " بواوٍ واحدةٍ من دون همز وهي تَحْتَمِلُ وجهين :

أحدهما - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنَّهُ تَخْفِيف " مذؤوماً " في القراءةِ الشَّهيرةِ بأن أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ على الذَّالِ السَّاكنة ، وحُذِفَت الهَمْزَةُ على القاعدةِ المُشْتَهِرَةِ في تَخْفيفٍ مثله ، فوزن الكلمة آل إلى " مَفُول " لحَذْفِ العَيْنِ .

والثاني : انَّ هذه القراءة مَأخُوذَةٌ من لغة مَنْ يَقُولُ : ذِمْتُه أذِيمُهَ كبِعْتُهُ أبيِعُهُ ، وكان من حقِّ اسم المَفْعُولِ في هذه اللُّغَةِ مَذِيمٌ كمبيع قالوا : إلا أنَّهُ أبْدِلَتِ الواوُ من اليَاءِ على حدِّ قولهم " مَكولٌ " في " مَكِيلٍ " مع أنَّهُ من الكيل ومثلُ هذه القراءةِ في احْتِمالِ الوجهين قول أمَيَّةَ بْنِ أبي الصَّلْتِ في البيت المُتقدِّمِ أنشده الواحِديُّ على لغةِ " ذَامَهُ " بالألف " يَذِيمُهُ " بالياء ، ولَيْتَهُ جعله محتملاً للتَّخْفِيفِ من لُغَةِ الهَمْزِ .

والدَّحْرُ : الطَّرْدُ والإبْعَادُ يقال : دَحَرَهُ ، يَدْحَرُهُ دَحْراً ، ودُحوراً ؛ ومنه : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً } [ الصافات : 8 ، 9 ] ؛ وقول أميَّةَ في البيت المتقدم " لَعِيناً دَحِيراً " .

وقوله أيضاً : [ الكامل ]

وبإذْنِهِ سَجَدُوا لآدَمَ كُلُّهُمْ *** إلاَّ لَعِيناً خَاطِئاً مَدْحُوراً{[15884]}

وقال الآخرُ : [ الوافر ]

دَحَرْتُ بَنِي الحَصِيبِ إلى قَدِيدٍ *** وقَدْ كَانوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرٍ{[15885]}

[ قال ابن عباس : " مذءُوماً أي : ممقوتاً " {[15886]} .

وقال قتادةُ : " مَذْءُوماً مدحوراً أي : ليعناً شقيّاً " {[15887]} .

وقال الكَلْبِيُّ : " مَذموماً ملوماً مدحوراً مقصيّاً من الجنَّةِ ومن كُلِّ خَيْر " ]{[15888]} .

قوله : " لَمْن تبعكَ " في هذه " اللاَّام " وفي " من " وجهان :

أظهرهما : أنَّ اللاَّمَ هي المُوطِّئَةُ لقسم مَحْذُوفٍ ، و " مَنْ " شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و " لأملأنَّ " جواب القسم المَدْلُول عليه بلام التوْطِئَة ، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم مَسَدَّه . وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك مراراً .

والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ الابتداء ، و " مَنْ " مَوْصُولَةٌ و " تَبِعَكَ " صلتها ، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً ، و " لأمْلأنَّ " جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ ، والتَّقْديرُ ، للّذي تبعك منهم ، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم .

فإن قُلْتَ : أيْنَ العِائِدُ من الجملة القسمِيَّةِ الواقِعَةِ خبراً عن المبتدأ ؟

قلتُ : هو مُتَضَمَّنٌ في قوله " مِنْكُمْ " ؛ لأنَّهُ لمَّا اجتمع ضَمِيراً غَيْبَةٍ وخطابٍ غلب الخطابُ على ما عُرفَ .

وفَتْحُ اللاَّم هو قراءةُ العامَّة . وقرأ عَاصِمٌ{[15889]} في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ : " لِمَنْ " بكسرها ، وخُرِّجَتْ على ثلاثةِ أوْجُهٍ :

أحدها - وبه قال ابنُ عطيَّة - أنَّها تتعلَّقُ بقوله " لأمْلأنَّ " فإنَّهُ قال : { لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ } ، وظاهرُ هذا أنَّهَا متعلِّقةٌ بالفعل بعد لام القسم .

وقاب أبُو حيَّان{[15890]} : " ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ تقديرها ؛ لأنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبلها " .

والثاني : أنَّ اللاَّمَ متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّخرِ ، والمعنى : أخْرُجْ بهاتين [ الصِّفتين ]{[15891]} لأجل اتِّباعِكَ . ذكره أبُو الفَضْلِ الرَّازِيُّ في كتاب " اللَّوَامِح " على شّاذِّ القراءة .

قال شهابُ الدِّين : ويمكن أن تَجِيءَ المسْألةُ من باب الإعمال ، لأن كلاًّ من " مذءوماً " و " مدحوراً " يطلبُ هذا الجارَّ عند هذا القَائِلِ من حيثُ المعنى ، ويكون الإعمال للثَّانِي كما هو مختار البصريَّين للحذف من الأوَّلِ .

والثالث : أن يكون هذا الجَارُّ خبراً مُقَدَّماً ، والمُبْتَدَأ محذوف تَقْدِيرُهُ : لمَنْ تَبِعَكَ منهم هذا الوعيدُ ، ودّلَّ على قوله هذا الوعيد قوله : " لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ " ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ ، وهذا الذي أراد الزَّمخشريُّ بقوله : يَعْنِي لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله : " لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ " على أنَّ " لأمْلأنَّ " في محلِّ الابتداء و " لمَنْ تَبِعَكَ " خبره .

قال أبُو حيَّان : " فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين ؛ لأنَّ قوله : " لأمْلأنَّ " جملةٌ هي : جوابُ قسم محذوف ، من حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط ، لا يجوز أن تكون مبتدأة ، ومن حيث كونها جوبااً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً ؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب ، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب وهو محال ؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع ، لا في موضع رَفْعٍ ، داخل عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ عليها عامل ، وذلك لا يتُصَوَّرُ " .

قال شهابُ الدِّينِ{[15892]} بعد أنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : " بمعنى لمن تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ " : كيف يحسن أنْ يتردد بعد ذلك فيقال : إنْ أرَادَ ظاهِرَ كلامه ، كيف يريدُهُ مع التَّصْريح بتأويله هو بنفسه ؟ وأمَّا قَوْلُهُ على أنَّ " لأمْلأنَّ " في محلِّ الابتداء ، فإنَّمَا قاله ؛ لأنَّهُ دَالٌّ على الوعيدِ الذي هو في محل الابتداء ، فنسب إلى الدَّالِّ ما يُنْسَبُ إلى المدْلُولِ من جِهَةِ المَعْنَى .

وقول الشَّيْخ أيضاً " ومِنْ حَيْثُ كوْنهَا جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً إلى آخره " كلام متحمِّل عليه ؛ لأنَّهُ لا يريد جملة الجوابِ فقط ألْبَتَّةَ ، إنَّمَا يريدُ الجملة القَسَمِيَّةَ برُمتِهَا ، وأنَّما استغنى بِذِكْرِهَا عن ذكر قسيمها ؛ لأنَّها مَلْفُوظٌ بها ، وقد تقدَّم ما يُشْبِهُ هذا الاعتراض الأخير عليه ، وجوابُهُ .

وأمَّا قَوْلُ الشَّيْخ : " ولا يَجُوزُ أن تكُونَ الجملة لها مَوْضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب " إلى آخر كلامهِ كُلِّهِ شيء واحد ليس فيه مَعْنىً زَائِدٌ .

قوله : " أجْمَعِيْنَ " تَأكيدٌ . واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرَ في أجمع وأخواته المستعملة في التَّأكيد إنَّمَا يُؤتَى بها بَعْدَ " كُلٍّ " نحو : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وفي غير الأكثر قَدْ تَجِيءُ بدون " كل " كهذه الآية الكريمةِ ، فإنَّ " أجْمَعينَ " تأكيد ل " مِنْكُمْ " ، ونظيرُهَا فيما ذكرنا قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] .

فصل

قال ابْنُ الأنْبَاريِّ : الكناية في قوله : " لَمَنْ تَبِعَكَ " عائد على ولد آدم ؛ لأنَّهُ حين قال : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ " كان مخاطباً لولد آدم فرجعتِ الكِنَايَةُ إليهم .

قال القَاضِي " : دلَّت هذه الآية على أنَّ التَّابعَ والمتبع يَتَّفِقَانِ في أنَّ جهنَّم تُملأ منهما ، فكما أنَّ الكَافِرَ تبعه ، فكذلك الفاسق فيجب القطع بدخول الفَاسِقَ في النَّار . وجوابه : أنَّ المذكور في الآية أنَّهُ تعالى يَمْلأُ جهنَّمَ ممن تَبِعَهُ ، وليس في الآيَة أنَّ كلَّ من تبعه يدخلُ جهنَّم ، فسقط هذا الاستدلالُ ، ودلَّتْ هذه الآية على أنَّ جميع أهْلِ البدعِ والضَّلالة يَدْخُلُونَ جهنَّمَ ، لأنَّ كلهم متابعون إبليس .


[15879]:ينظر فصل المقال 44، والدر المصون 3/244.
[15880]:تقدم.
[15881]:البيت لحسان بن ثابت ينظر: ديوانه 92، الدر المصون 3/244.
[15882]:البيت ينظر: ديوانه 235، تفسير الرازي 14/44، الدر المصون 3/245.
[15883]:ينظر: المحرر الوجيز 2/381، والبحر المحيط 4/278، والدر المصون 3/344، والتخريجات النحوية 325.
[15884]:البيت ينظر: ديوانه 235، تفسير الرازي 14/44، الدر المصون 3/345.
[15885]:البيت ينظر: تفسير ابن عطية 3/51، الدر المصون 3/245، البحر المحيط 4/266.
[15886]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/48).
[15887]:انظر: البحر المحيط لأبي حيان 4/278.
[15888]:انظر: البحر المحيط 4/278.
[15889]:ينظر: المحر الوجيز 2/382، والبحر المحيط 4/278، والدر المصون 3/245.
[15890]:ينظر: البحر المحيط 4/279.
[15891]:سقط من أ.
[15892]:ينظر: الدر المصون 3/246.