ثم قال تعالى : { والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } وفيه لطائف ( الأولى ) أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولههم بأولادهم بل يجمع بينهم ، فإن قيل قد ذكرت في تفسير بعض الآيات أن الله تعالى يسلي الآباء عن الأبناء وبالعكس ، ولا يتذكر الأب الذي هو من أهل الجنة الابن الذي هو من أهل النار ، نقول الولد الصغير وجد في والده الأبوة الحسنة ولم يوجد لها معارض ولهذا ألحق الله الولد بالوالد في الإسلام في دار الدنيا عند الصغر وإذا كبر استقل ، فإن كفر ينسب إلى غير أبيه ، وذلك لأن الإسلام للمسلمين كالأب ولهذا قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } جمع أخ بمعنى أخوة الولادة والإخوان جمعه بمعنى أخوة الصداقة والمحبة فإذن الكفر من حيث الحس والعرف أب ، فإن خالف دينه دين أبيه صار له من حيث الشرع أب آخر ، وفيه أرشاد الآباء إلى أن لا يشغلهم شيء عن الشفقة على الولد فيكون من القبيح الفاحش أن يشتغل الإنسان بالتفرج في البستان مع الأحبة الإخوان وعن تحصيل قوت الولدان ، وكيف لا يشتغل أهل الجنة بما في الجنة من الحور العين عن أولادهم حتى ذكروهم فأراح الله قلوبهم بقوله { ألحقنا بهم ذرياتهم } وإذا كان كذلك فما ظنك بالفاسق الذي يبذر ماله في الحرام ويترك أولاده يتكففون وجوه اللئام والكرام ، نعوذ بالله منه وهذا يدل على أن من يورث أولاده مالا حلالا يكتب له به صدقة ، ولهذا لم يجوز للمريض التصرف في أكثر من الثلث .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { واتبعتهم ذريتهم } فهذا ينبغي أن يكون دليلا على أنا في الآخرة نلحق بهم لأن في دار الدنيا مراعاة الأسباب أكثر . ولهذا لم يجر الله عادته على أن يقدم بين يدي الإنسان طعاما من السماء ، فما يتسبب له بالزراعة والطحن والعجن لا يأكله ، وفي الآخرة يؤتيه ذلك من غير سعي جزاء له على ما سعى له من قبل فينبغي أن يجعل ذلك دليلا ظاهرا على أن الله تعالى يلحق به ولده وإن لم يعمل عملا صالحا كما أتبعه ، وإن لم يشهد ولم يعتقد شيئا .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { بإيمان } فإن الله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده ، ومن ارتد من المسلمين والعياذ بالله لا يحكم بكفر ولده .
اللطيفة الرابعة : قال في الدنيا { أتبعناهم } وقال في الآخرة { ألحقنا بهم } وذلك لأن في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات المتبوع ، وإنما يكون هو تبعا والأب أصلا لفضل الساعي على غير الساعي ، وأما في الآخرة فإذا ألحق الله بفضله ولده به جعل له من الدرجة مثل ما لأبيه .
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى : { وما ألتناهم } تطييب لقلبهم وإزالة وهم المتوهم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله بفضل السعي ولأولاده مثل ذلك فضلا من الله ورحمة .
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { من عملهم } ولم يقل من أجرهم ، وذلك لأن قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم } دليل على بقاء عملهم كما كان والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه الإشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه ، ولو قال : ما ألتناهم من أجرهم ، لكان ذلك حاصلا بأدنى شيء لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ولأنه لو قال تعالى ما ألتناهم من أجرهم ، كان مع ذلك يحتمل أن يقال إن الله تعالى تفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص ، وأعطاه الأجر الجزيل ، مع أن عمله كان له ولولده جميعا ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : { والذين ءامنوا } عطف على ماذا ؟ نقول على قوله { إن المتقين } .
المسألة الثانية : إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ { الذين آمنوا } وكان المقصود يحصل بقوله تعالى : { وألحقنا بهم ذرياتهم } بعد قوله { وزوجناهم } وكان يصير التقدير وزوجناهم وألحقنا بهم ؟ نقول فيه فائدة وهو أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وقال هاهنا { الذين آمنوا } أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ، ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب ، وفيه لطيفة معنوية ، وهو أنه ورد في الأخبار أن الولد الصغير يشفع لأبيه وذلك إشارة إلى الجزاء .
المسألة الثالثة : هل يجوز غير ذلك ؟ نقول نعم يجوز أن يكون قوله تعالى : { والذين ءامنوا } عطفا على { بحور عين } تقديره : زوجناهم بحور عين ، أي قرناهم بهن ، وبالذين آمنوا ، إشارة إلى قوله تعالى : { إخوانا على سرر متقابلين } أي جمعنا شملهم بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى : { وأتبعناهم } وهذا الوجه ذكره الزمخشري والأول أحسن وأصح ، فإن قيل كيف يصح على هذا الوجه الإخبار بلفظ الماضي مع أنه سبحانه وتعالى بعد ما قرن بينهم ؟ قلنا صح في وزوجناهم على ما ذكر الله تعالى من تزويجهن منا من يوم خلقهن وإن تأخر زمان الاقتران .
المسألة الرابعة : قرئ { ذرياتهم } في الموضعين بالجمع وذريتهم فيهما بالفرد ، وقرئ في الأول { ذرياتهم } وفي الثانية { ذريتهم } فهل للثالث وجه ؟ نقول نعم معنوي لا لفظي وذلك لأن المؤمن تتبعه ذرياته في الإيمان ، وإن لم توجد على معنى أنه لو وجد له ألف ولد لكانوا أتباعه في الإيمان حكما ، وأما الإلحاق فلا يكون حكما إنما هو حقيقة وذلك في الموجود فالتابع أكثر من الملحوق فجمع في الأول وأفرد الثاني .
المسألة الخامسة : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله { وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان } ؟ نقول هو إما التخصيص أو التنكير كأنه يقول : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان مخلص كامل أو يقول أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه فإن الإيمان كاملا لا يوجد في الولد بدليل أن من له ولد صغير حكم بإيمانه فإذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التبعية قيل بأنه لا يكون مرتدا وتبين بقول إنه لم يتبع وقيل بأنه يكون مرتدا لأنه كفر بعد ما حكم بإيمانه كالمسلم الأصلي فإذن بهذا الخلاف تبين أن إيمانه يقوى وهذان الوجهان ذكرهما الزمخشري ، ويحتمل أن يكون المراد غير هذا وهو أن يكون التنوين للعوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى : { بعضهم ببعض } وقوله تعالى : { وكلا وعد الله الحسنى } وبيانه هو أن التقدير أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإتباع ليس بإيمان كيف كان وممن كان ، وإنما هو إيمان الآباء لكن الإضافة تنبئ عن تقييد وعدم كون الإيمان إيمانا على الإطلاق ، فإن قول القائل ماء الشجر وماء الرمان يصح وإطلاق اسم الماء من غير إضافة لا يصح فقوله { بإيمان } يوهم أنه إيمان مضاف إليهم ، كما قال تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } حيث أثبت الإيمان المضاف ولم يكن إيمانا ، فقطع الإضافة مع إرادتها ليعلم أنه إيمان صحيح وعوض التنوين ليعلم أنه لا يوجب الأمان في الدنيا إلا إيمان الآباء وهذا وجه حسن .
ثم قال تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } قال الواحدي : هذا عود إلى ذكر أهل النار فإنهم مرتهنون في النار ، وأما المؤمن فلا يكون مرتهنا قال تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } وهو قول مجاهد وقال الزمخشري { كل امرئ بما كسب رهين } عام في كل أحد مرهون عند الله بالكسب فإن كسب خيرا فك رقبته وإلا أربق بالرهن والذي يظهر منه أنه عام في حق كل أحد ، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلا بمعنى الفاعل ، فيكون المعنى ، والله أعلم كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ، إن أحسن ففي الجنة مؤبدا ، وإن أساء ففي النار مخلدا ، وقد ذكرنا أن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عامله .
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين ) . .
{ والذين آمنوا } على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين . وقيل إنه مبتدأ { ألحقنا بهم } وقوله : { واتبعتهم ذريتهم بإيمان } اعتراض للتعليل ، وقرأ ابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " بالجمع وضم التاء للمبالغة في كثرتهم والتصريح ، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير ، وقرأ أبو عمرو و " أتبعناهم ذرياتهم " أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان وقيل { بإيمان } حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان . { ألحقنا بهم ذريتهم } في دخول الجنة أو الدرجة . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية " وقرأ نافع وابن عامر والبصريان { ذرياتهم } . { وما ألتناهم } وما نقصناهم . { من عملهم من شيء } بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ، ويحتمل أن يكون بالتفصيل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه . وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت ، وعنه " لتناهم " من لات يليت و " آلتناهم " من آلت يولت ، و " والتناهم " من ولت يلت ومعنى الكل واحد . { كل امرئ بما كسب رهين } بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه .
قوله جلّ ذكره : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } .
يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم ؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد والذرية يوجِب تَنَغص العيش .
وكذلك كلُّ مْن قلبُ الوليِّ يلاحِظه من صديق وقريب ، ووليٍّ وخادم ، قال تعالى في قصة يوسف : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] .
إنيِّ على جفواتها - فبربِّها *** وبكلِّ مُتَّصلٍ بها متوسِّلِ
لأحُّبها ، وأُحِبُّ منزلَها الذي *** نزلت به وأحب أهل المنزِل
{ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا . وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا .
{ كُلُّ امْرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } مُطَالَبٌ بعمله ، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير ، وإنْ كان ذنباً فالكثيرُ منه مغفور ، كما أنه اليوم مستور .
{ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 ) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( 23 ) }
وما ألتناهم : وما أنقصنا الآباء بسبب إلحاق الأبناء بهم .
رهين : مرهون عند الله بعمله ، والعمل الصالح يفكّه ، والعمل الطالح يوبقه .
21- { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
نوع من أنواع الفضل الإلهي على أهل الجنة ، فإذا كان الآباء في الدرجات العليا من الجنة ، والأبناء اشتركوا معهم في الإيمان ، وقصَّروا عن الآباء في الأعمال الصالحة ، فإن الله تعالى يتفضل على الآباء بأن يرفع درجات الأبناء في الجنة ، ويلحقهم بآبائهم ، لتقر عيونهم بهذا الاجتماع الأسري ، وجَمع الشمل بين الإنسان وآبائه وأبنائه ، ولا ينقص الآباء من درجاتهم شيئا ، لأن الآباء قد عملوا أعمالا أهَّلتهم للدرجات العليا .
{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
أي : كل إنسان مرتبط بعمله ، فهو الذي يرفعه وهو الذي يخفضه ، وليس من العدل أن ينقص الأب درجة من أجل ابنه .
فالله تعالى عامل الأبناء بالفضل ورفع درجتهم ، وعامل الآباء بالعدل وأبقاهم في المنزلة العليا في الجنة . حكمة منه وعدلا وفضلا وإحسانا .
إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في المنزلة ، لتقرَّ بهم عينه ، وقرأ الآية .
( رواه الحاكم ، والبيهقي في سننه ) .
وفي رواية الطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل الجنة ، سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا رب ، قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به " . وقرأ ابن عباس الآية : { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
والآية على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في الكبار من الذريّة دون الصغار .
وروي عن ابن عباس والضحاك وغيرهم أنهم قالوا : إن الله يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين ، كما يلحق الكبار المكلّفين المؤمنين الذين لم يبلغوا درجة آبائهم في العمل الصالح والبعد عن المعاصي ، يلحقهم بآبائهم في درجتهم في الجنة ، إكراما لهم ولتكمل بهم مسرتهم . أ . ه
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان . . } بيان لحال طائفة من أهل الجنة ، وهم الذين شاركتهم ذريتهم – الأقل منهم عملا – في الإيمان . والذرية : تصدق على الأبناء والآباء ؛ أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر ، ألحق به من دونه في العمل ، ابنا كان أو أبا ، سواء كان الأبناء صغارا أم كبارا . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل ؛ لتقر بهم عينه . وعنه مرفوعا : ( إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ؛ فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقوله " والذين آمنوا " مبتدأ خبره جملة " ألحقنا بهم ذريتهم " أي في الدرجة ، " واتبعتهم " عطف على " آمنوا " . و " بإيمان " متعلق به ، والباء للسببية أو الظرفية ؛ أي اتبعتهم بسبب الإيمان أو فيه . { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا المتبوعين من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق ذريتهم بهم في الدرجة ؛ بل أعطيناهم ثوابهم كاملا ، ورفعنا ذريتهم إلى درجتهم فضلا وإحسانا . يقال : ألته حقه يألته – من باب ضرب – نقصه . { كل امرئ بما كسب رهين } أي كل امرئ مرهون عند الله بكسبه وعمله ؛ فإن كان عمله صالحا فكّ نفسه وخلصها ، كما يخلص المرهون من يد مرتهنه ؛ وإلا أهلكها .
وما ألَتناهم من عملهم : ما أنقصناهم .
هم وذريّاتهم الطيبة ، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم ، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح .
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات . وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع . والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع .
وقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ } الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذي شاركتهم ذريتهم في الايمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : { بإيمان } متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناءاً على تفاوت مراتب نفس الايمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الايمان الكامل أصالة لا إلحاقاً قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير والمعول عليه ما قدمنا { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } في الدرجة . أخرج سعيد بن منصور . وهناد . وابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والحاكم . والبيهقي في «سننه » عن ابن عباس قال : " إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بِهِم عينه ثم قرأ الآية " وأخرجه البزار . وابن مردويه عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه . والطبراني عنه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وقرأ ابن عباس الآية ، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحياناً ولو للزيارة . وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته { وَمَا ألتناهم } أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق { مّنْ عَمَلِهِم } أي من ثواب عملهم { مِن شَىْء } أي شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال ابن زيد الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئاً بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملاً وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وإلى الأول ذهب ابن عباس . وابن جبير . والجمهور . والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار .
والضحاك أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقاً بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعاً لآبائهم فكانوا مؤمنين حكماً لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل : الموصول معطوف على { حور } [ الطور : 20 ] ، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : { واتبعتهم } عطف على { زوجناهم } [ الطور : 20 ] ، وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجهاً أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس . وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم .
وقرأ أبو عمرو { وأتبعناهم } بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضاً ذرياتهم جمعاً نصباً ، وابن عامر كذلك رفعاً ، وقرأ ذرياتهم بكسر الذال { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ الحسن . وابن كثير ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن هرمز آلتناهم بالمد من آلت يؤلت ، وابن مسعود . وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش أيضاً لتناهم بفتح اللام ، قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرئ وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلاً قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ } أي بكسبه وعمله { رَهَينٌ } أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤدّ الدين فإن كان العمل صالحاً فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا :
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أصحاب اليمين } [ المدثر : 38 ، 39 ] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم .
ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذباً لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : { هُوَ البر الرحيم } [ الطور : 28 ] ليكون كلاماً راجعاً إلى حال الفريقين المدعوين . والمتقين وإنما جعل متخللاً بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم ، قال في «الكشف » : ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضاً ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقاً لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلاً على الآباء لا على الأبناء ابتداءاً لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافاً بيانياً لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : { رَهَينٌ } فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي «الإرشاد » أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلاً بمعنى المفعول أسرع تبادراً إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى .
{ والذين آمنوا } : أي حق الإِيمان المستلزم للإِسلام والإِحسان .
{ واتبعتهم ذريتهم بإيمان } : أي كامل مستوفٍ لشرائطه ومنها الإِسلام .
{ ألحقنا بهم ذريَّتَهُم } : أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك .
{ وما ألتناهم من عملهم من شيء } : أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئاً .
{ كل امرئ بما كسب رهين } : أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل .
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى : { والذين آمنوا } أي حق الإِيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم . وقوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملاً غير منقوص ورفعنا إليه أبناءهم بفضلٍ منا ورحمة . وقوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع الى درجاتهم أبناءهم تفضيلا وإحسانا .
- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء ما يكون فيه .
- فضل الإِيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الأبناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح .
- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه إلا الله عز وجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإِيمان والإِسلام والإِحسان .