{ اقتربت الساعة وانشق القمر } أول السورة مناسب لآخر ما قبلها ، وهو قوله : { أزفت الآزفة } فكأنه أعاد ذلك مع الدليل ، وقال قلت : { أزفت الآزفة } وهو حق ، إذ القمر انشق ، والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق ، وحصل فيه الانشقاق ، ودلت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الانشقاق بعينها معجزة ، فسأل ربه فشقه ومضى ، وقال بعض المفسرين المراد سينشق ، وهو بعيد ولا معنى له ، لأن من منع ذلك وهو الفلسفي يمنعه في الماضي والمستقبل ، ومن يجوزه لا حاجة إلى التأويل ، وإنما ذهب إليه ذلك الذاهب ، لأن الانشقاق أمر هائل ، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر ، نقول : النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يتحدى بالقرآن ، وكانوا يقولون : إنا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام ، وعجزوا عنه ، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أخرى فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر . وأما المؤرخون فتركوه ، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا : بأنه مثل خسوف القمر ، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات ، وذكرناه مرارا فلا نعيده .
جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وإمهالهم ليوم يخرجون فيه من الأجداث كأنهم جراد منتشر .
وتتابعت الآيات بعد ذلك ، تعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مع رسلهم ، والعذاب الذي حاق بهم ، وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسر لمن يطلب العظة والاعتبار .
منتهية إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب ، ثم ختمت السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصائرهم يوم يسبحون في النار على وجوههم ، ويقال لهم : ذوقوا مس جهنم التي كنتم بها تكذبون ، وتطمئن المتقين إلى منازلهم في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون
هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر ، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة . وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة ، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين ، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له : ( فكيف كان عذابي ونذر ? ) . . ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ? ) .
ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكية شتى . فهي مشهد من مشاهد القيامة في المطلع ، ومشهد من هذه المشاهد في الختام . وبينهما عرض سريع لمصارع قوم نوح . وعاد وثمود . وقوم لوط . وفرعون وملئه . وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى . .
ولكن هذه الموضوعات ذاتها تعرض في هذه السورة عرضا خاصا ، يحيلها جديدة كل الجدة . فهي تعرض عنيفة عاصفة ، وحاسمة قاصمة ؛ يفيض منها الهول ، ويتناثر حولها الرعب ، ويظللها الدمار والفزع والانبهار !
وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة . يشهدها المكذبون ، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها ، ويحسون إيقاعات سياطها . فإذا انتهت الحلقة وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا . . وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق . فيطل المشهد الأخير في السورة . وإذا هو جو آخر ، ذو ظلال أخرى . وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة . إنه مشهد المتقين : ( إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . في وسط ذلك الهول الراجف ، والفزع المزلزل ، والعذاب المهين للمكذبين : ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) . .
فأين وأين ? مشهد من مشهد ? ومقام من مقام ? وقوم من قوم ? ومصير من مصير ?
اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر . فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر . خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون : هذا يوم عسر . .
مطلع باهر مثير ، على حادث كوني كبير ، وإرهاص بحادث أكبر . لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير :
( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . .
فيا له من إرهاص ! ويا له من خبر . ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر .
والروايات عن انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة . تتفق كلها في إثبات وقوع الحادث ، وتختلف في رواية هيئته تفصيلا وإجمالا :
من رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ابن مالك قال : سأل أهل مكة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر بمكة مرتين فقال : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . . وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبدالوهاب . حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك . أن أهل مكة سألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يريهم آية . فأراهم القمر شقين حتى رأو حراء بينهما . وأخرجه الشيخان من طرق أخرى عن قتادة عن أنس . .
ومن رواية جبير بن مطعم - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان ابن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فصار فلقتين . فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . . تفرد به أحمد من هذا الوجه . . وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن . . ورواه ابن جرير والبيهقي من طرق أخرى عن جبير بن مطعم كذلك . .
ومن رواية عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - . . قال البخاري : حدثنا يحيى بن كثير ، حدثنا بكر ، عن جعفر ، عن عراك بن مالك ، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : انشق القمر في زمان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . . ورواه البخاري أيضا ومسلم من طريق آخر عن عراك بسنده السابق إلى ابن عباس . . وروى ابن جرير من طريق أخرى إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه . . وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا . . وقال الطبراني بسند آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )- إلى قوله : ( مستمر ) .
ومن رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة خلف الجبل . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " اللهم اشهد " . . وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد . .
ومن رواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شقتين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اشهدوا " . وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة . وأخرجاه كذلك من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة ، عن ابن مسعود . وقال البخاري : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة . قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم من السفار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال : فجاء السفار فقالوا ذلك . . وروى البيهقي من طريق أخرى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، بما يقرب من هذا .
فهذه روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع هذا الحادث ، وتحديد مكانه في مكة - باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان في منى - وتحديد زمانه في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قبل الهجرة . وتحديد هيئته - في معظم الروايات أنه انشق فلقتين ، وفي رواية واحدة أنه كسف " أي خسف " . . فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة .
وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه ؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه ؛ فلا بد أن يكون قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب ، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات ، لو وجدوا منفذا للتكذيب . وكل ما روي عنهم أنهم قالوا : سحرنا ! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر ، فعرفوا أنه ليس بسحر ؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه .
بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول : إن المشركين سألوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر . فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله ، لسبب معين : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات - أي الخوارق - لما كان من تكذيب الأولين بها .
وفي كل مناسبة طلب المشركون آية من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كان الرد يفيد أن هذا الأمر خارج عن حدود وظيفته ، وأنه ليس إلا بشرا رسولا . وكان يردهم إلى القرآن يتحداهم به بوصفه معجزة هذا الدين الوحيدة : ( قل : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) .
فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية - أي خارقة - يبدو بعيدا عن مفهوم النصوص القرآنية ؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده ، وما فيه من إعجاز ظاهر ؛ ثم توجيه هذا القلب - عن طريق القرآن - إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق ، وفي أحداث التاريخ سواء . . فأما ما وقع فعلا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراما من الله لعبده ، لا دليلا لإثبات رسالته . .
ومن ثم نثبت الحادث - حادث انشقاق القمر - بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته . ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات . ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة . باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب . .
وانشقاق القمر إذن كان آية كونية يوجه القرآن القلوب والأنظار إليها ، كما يوجهها دائما إلى الآيات الكونية الأخرى ؛ ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها ، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونية الأخرى .
إن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته ، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة ، والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ . وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل - صلوات الله عليهم - قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم ، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق !
ولنفرض أن انشقاق القمر جاء آية خارقة . . فإن القمر في ذاته آية أكبر ! هذا الكوكب بحجمه ، ووضعه ، وشكله ، وطبيعته ، ومنازله ، ودورته ، وآثاره في حياة الأرض ، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد . هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب ، توقع إيقاعها وتلقي ظلالها ، وتقوم أمام الحس شاهدا على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عنادا أو مراء !
وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله ؛ وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة ؛ ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة ؛ لا مرة عارضة في زمان محدود ، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود .
إن الكون كله هو مجال النظر والتأمل في آيات الله التي لا تنفد ، ولا تذهب ، ولا تغيب . وهو بجملته آية . وكل صغيرة فيه وكبيرة آية . والقلب البشري مدعو في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة ، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة ؛ والاستمتاع كذلك بعجائب الإبداع الممتعة ، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال ، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق .
وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق القمر إيقاعا يهز القلب البشري هزا . وهو يتوقع الساعة التي اقتربت ، ويتأمل الآية التي وقعت ، ويتصور أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكوني الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير .
وفي موضوع اقتراب الساعة روى الإمام أحمد . قال : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مطوف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
ومع اقتراب الموعد المرهوب ، ووقوع الحادث الكوني المثير ، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتى . . فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد ، وتصر على الضلال ، ولا تتأثر بالوعيد كما لا تتأثر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكف عن التكذيب :
( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر ) .
ولقد أعرضوا وقالوا : سحرنا ، وهم يرون آية الله في انشقاق القمر . وكان هذا رأيهم مع آية القرآن . فقالوا : سحر يؤثر . فهذا قولهم كلما رأوا آية . ولما كانت الآيات متوالية متواصلة ، فقد قالوا : إنه سحر مستمر لا ينقطع ، معرضين عن تدبر طبيعة الآيات وحقيقتها ، معرضين كذلك عن دلالتها وشهادتها .
سورة القمر مكية ، وآياتها ( 55 ) آية ، نزلت بعد سورة الطارق .
وهي سورة تمثل سياطا لاذعة للمكذبين المنكرين ، وتعرض مشاهد خاطفة لما أصاب المكذبين السابقين ، وتستعرض مواقف القيامة وأهوال الحشر ، وأحوال المجرمين ، وما يصبيهم من العذاب والنكال في الآخرة .
يصف مطلع السورة حادثا فذا ، هو انشقاق القمر بقدرة الله تعالى معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد وردت روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع انشقاق القمر في مكة قبل الهجرة ، حيث جاءت هذه الروايات في البخاري ، ومسلم ، ومسند الإمام أحمد ، وغيرها من كتب السنة .
فقد روى الشيخان ، عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما .
وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشةi ، قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم من السُّفارii فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، قال : فجاء السُّفار فقالوا ذلك .
وهذه الروايات مع غيرها تتفق على انشقاق القمر بمكة .
كما ثبت أن أهل مكة قابلوا هذه الآية بالعناد ، وادعوا أن محمدا سحر أهل مكة حتى يشاهدوا القمر منشقا ، ثم اتفقوا على أن يسألوا عن الحادث المسافرين القادمين إلى مكة ، وقد شهد المسافرون بأنهم شاهدوا القمر نصفين في ذلك اليوم ، فادعى أهل مكة أن محمدا سحر الناس جميعا .
قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } . ( القمر : 1-2 ) .
ويرى بعض المفسرين أن الآية تخبر عن الأحداث الكونية المستقبلة ، فعند قيام الساعة ستنشق الأرض والسماوات ، كما قال سبحانه : إذا السماء انشقّت . ( الانشقاق : 1 ) . كما ينشق القمر وينفصل بعضه عن بعض ، وتتناثر النجوم ، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات .
في الآيات ( 1-8 ) وصف لجحود الكافرين ، وعدم إيمانهم بالقرآن ، وانصرافهم عنه إلى الهوى والبهتان .
وفي الآيات تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين بيوم الجزاء ، فهم يخرجون من قبورهم خاشعين من الذل ، في حالة سيئة من الرعب والهول ، فيسرعون الخطى ليوم الحشر كأنهم جراد منتشر ، وقد أسقط في أيديهم فيقول الكافرون : هذا يوم صعب عسر .
الآيات من ( 9-42 ) تشتمل على عرض سريع لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط ، وفرعون وملئه ، وكلها موضوعات سبقت في سورة مكية ، ولكنها تعرض في هذه السورة عرضا خاصا ، يحيلها جديدة كل الجدة ، فهي تعرض عنيفة عاصفة ، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول ، ويتناثر حولها الرعب ويظللها الدمار والفزع .
وأخص ما يميزها في سياق السورة ، أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة ، يشهدها المكذبون وكأنما يشهدون أنفسهم فيها ، ويحسون إيقاعات سياطها ، فإذا انتهت الحلقة وبدؤوا يتسردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا ، حتى تنتهي الحلقات الخمس في هذا الجو المفزع الخانق .
وتلمح في الآيات مشهد المكذبين يتهمون نوحا بالجنون ، ونوح يظهر لله ضعفه ويدعوه أن ينتصر له ، وتستجيب السماء فينهمر المطر وتنفجر عيون الأرض ، ويلتقي ماء السماء بماء الأرض ، ثم يغرق الكافرون ، وينجي الله نوحا ومن آمن معه ، ويسأل القرآن سؤالا لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير ، فيقول : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } . ( القمر : 16 )
والقرآن كتاب إلهي سهل التناول ميسر الإدراك ، فيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة ، لا تفنى عجائبه ، ولا يَخلق على كثرة الرد ، وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد ، وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } . ( القمر : 17 ) .
هذا هو التعقيب الذي يتكرر بعد كل مصرع من مصارع السابقين .
2- عاد قوم هود ( الآيات 18-22 ) :
أرسل الله عليهم ريحا عاتية تدمر كل شيء بإذن ربها ، وقد سلسلوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا تعصف بهم الريح ، وشقوا لأجسامهم شقوقا داخل الأرض ، وتركوا رؤوسهم خارجها ، فكانت الريح تكسر رؤوسهم وتتركهم كالنخيل التي قُطعت رؤوسها وتُركت أعجازها وجذورها .
3- ثمود قوم صالح ( الآيات 23-32 ) .
وقد أرسل الله إليهم نبيه صالحا ومعه الناقة ، فأخبرهم بأن الماء قسمة بينهم وبينها ، فللناقة يوم ولهم يوم ، لها شِرب ولهم شِرب يوم معلوم .
وكان اليوم الذي ترد فيه ثمود البئر لا تأتي الناقة إليه ولا تشرب منه ، ولكنها تسقيهم لبنا ، وفي اليوم التالي تحضر شربها وحدها ومع وضوح هذه الآية ، فإن ثمود ملّت هذه القسمة ، وحرَّضوا شقيا من الأشقياء على قتل الناقة ، فلما قتلها استحقوا عقاب الله ، وأرسل الله عليهم صيحة واحدة فكانوا كفتات الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه .
اشتهر قوم لوط بالشذوذ الجنسي ، حيث استغنى الرجال بالرجال ، وهو انتكاس للفطرة وشرود في الرذيلة ، ولقد حذرهم لوط مغبة فعلتهم ، ، فكذبوه وجادلوا بالباطل ، وجاءت الملائكة إلى نبي الله لوط في صورة رجال عليهم مسحة الجمال والجلال ، فرغب قوم لوط في أن يفعلوا فعلتهم الشنعاء في الملائكة ، وراودوه عن ضيفه ليفعلوا بهم اللواط ، فاستحقوا عقوبة السماء ، وأرسل الله عليهم حاصبا ، أي ريحا تحمل الحجارة ، ليذوقوا العذاب .
5- ثم تعرض السورة حلقة قصيرة عن فرعون وجحوده وعقاب الله له حيث أخذه أخذ عزيز مقتدر .
وفي الآيات الأخيرة من السورة ( 43-55 ) تعقيب على هلاك السابقين ، وتوجيه لأهل مكة بأنهم لن يكونوا أحسن حالا ممن سبقهم ، ثم إن الساعة تنتظرهم وهي أدهى وأمر من كل عذاب شاهدوه فيما سبق ، أو سمعوا وصفه فيما مرَّ ، من الطوفان الذي أصاب قوم نوح ، إلى الصرصر مع عاد ، إلى الصاعقة مع ثمود ، إلى الحاصب مع قوم لوط ، إلى إغراق فرعون .
وتشير الآيات إلى حكمة الله العالية ، فتقول : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } . ( القمر : 49 ) .
وهذه الحكمة تظهر في خلق الكون ، وفي خلق السماء والأرض ، وفي خلق الإنسان ، وفي خلق الطيور والحيوانات ، وفي سائر خلق الله : { يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير } . ( النور : 45 ) .
إن قدرة الله تعالى وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث ، ولكل نشأة ، ولكل مصير ، ووراء كل نقطة وكل خطوة وكل تبديل أو تغيير ، إنه قَدَر الله النافذ الشامل الدقيق العميق .
وأحيانا تخفى الحكمة على العباد فيستعجلون أمرا ، والله لا يعجل لعجلة العباد ، فالواجب أن يرضى المؤمن بالقضاء والقدر ، وأن يحني رأسه أمام حكمة الله ومشيئته .
ثم يعرض الختام مشهد المجرمين يسحبون في النار على وجوههم ليذوقوا العذاب ، كما يعرض مشهد المتقين في نعيم الجنة ورضوان الله العلي القدير .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 ) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ( 2 ) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ( 3 ) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ( 6 ) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 ) }
انشق القمر : انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين .
1- { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } .
اقتربت القيامة ، فالباقي من عمر الدنيا أقل بكثير مما سبق منها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهاتين " v . وقرن بين أصبعيه الوسطى والسبابة . ( متفق عليه ) .
وقد مرّ بعد الرسالة المحمدية أكثر من أربعة عشر قرنا ، لكنها قليلة بالنسبة إلى عمر الدنيا وهو قرابة13 بليون سنة .
وفي عام 1994م انعقد مؤتمر علمي في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن معرفة عمر الكون وعمر الإنسان على هذه الأرض ، وانتهى المؤتمر إلى أن عمر الكون 13 بليون سنة ، وأن عمر الإنسان على هذه الأرض 7 بلايين سنة .
وقد انشق القمر معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رُئي جبل حراء بين الشقّين ، فقال أهل مكة : انتظروا حتى يأتي السفّار ، أي المسافرون خارج مكة ، فلم قدم المسافرون قالوا : شاهدنا القمر قد انشق نصفين ، فقال الكفار : إن محمدا سحر الناس جميعا .
وذهب بعض المفسرين على أن المعنى :
سينشق القمر عند قيام الساعة ، حيث يكون من علامات الساعة تكوير الشمس وذهاب ضوئها ، وانكدار النجوم ، وانشقاق القمر .
ونحن أمام الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع ، وإشارة القرآن الكريم إلى ذلك ، نصدق ونؤيد وقوع انشقاق القمر ، معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقا له .
وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ، أنّ انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرة .
وقد أيد هذا المعنى الآلوسي في تفسيره فقال : والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة ، واختلف في تواترها ، فقيل : هي غير متواترة ، وفي شرح المواقف أنها متواترة ، وهو الذي اختاره العلامة السبكي ، فقد قال : الصحيح عندي أنَّ انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه في القرآن ، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتّى ، لا يمترى في تواتره .
وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة ، عن جماعة من الصحابة ، منهم : علي بن أبي طالب ، وأنس ، وابن مسعود . أ . ه .
والساعة لا يعلم وقت مجيئها إلا الله ، واقتراب الساعة يمكن أن يراد به أن الباقي من عمر الدنيا قليل ، بالنسبة لما مضى منها .
روى الحافظ أبو بكر البزار ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب ، فلم يبق منها إلا سف يسير ، فقال : " والذي نفسي بيده ، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها ، إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه " ، وما نرى من الشمس إلا يسيرا . والمقصود حثّ الناس على التوبة والإنابة والإيمان قبل فوات الأوان .
وقريب من ذلك قوله تعالى : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه . . . } ( النحل : 1 )
وقوله سبحانه : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ( الأنبياء : 1 ) .
وقوله تعالى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا . } ( الأحزاب : 63 ) .
والخلاصة : إن جمهور المحدثين والمفسرين على أن الانشقاق حقيقة ، فقد قال القرطبي : ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره ، وقيل : معناه : وضح الأمر وظهر ، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح ، ثم علّق القرطبي قائلا : قد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس في رؤيته ، لأنها كانت آية ليلية ، وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله عند التحدي . . .
سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون ، نزلت بعد سورة الطارق . وهي كباقي السور المكية في معالجتها أصول الدين ، ولكن بطابع خاص ، وفي عرضها للموضوعات عرضا خاصا فيه التهديد والوعيد . وفيها حملة عنيفة على المكذبين بآيات القرآن المبين . وقد جاءت الآية الأولى من هذه السورة تنبه الأسماع إلى اقتراب القيامة ، وتحذّر الناس من أمرها ، ثم جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب على الرسول الكريم الإعراض عن المشركين وإمهالهم إلى يوم يخرجون فيه من قبورهم كأنهم جراد منتشر .
ثم تتابع الآيات بعد ذلك بالنذر والصبر ، وتعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مثل قوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون وملئه ، والعذاب الذي حاق بهم . وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسّر لمن يطلب العظة والاعتبار .
ثم تنتهي إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب . ثم تُختتم السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصيرهم يوم يُسحبون إلى النار على وجوههم ، ويقال لهم : { ذوقوا مسّ سقر } ، وتبيّن مآل السعداء المتقين ، وأنهم في منازلهم في جنات النعيم . ويظهر الفرق بالمقارنة بين الفجار المعاندين ، والمؤمنين المتقين المصدقين : { إن المتقين في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر } .
يخبرنا الله تعالى باقترابِ يوم القيامة ، ونهايةِ الدنيا وانقضائها ، وأنّ الكونَ يختلُّ كثيرٌ من نظامه عند ذاك ، كما جاء في قوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت } [ التكوير : 1-2 ] ، والتكدُّر هو الانتثار ، فعبّر بالماضي ، وهنا التعبير جاء بالماضي ، وكما قال في آخر سورة النجم { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] .
وقد روى الإمام أحمد عن سهلِ بن سعد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « بُعثتُ أنا والساعةُ هكذا ، وأشار بأصبعَيه السبّابةِ والوسطَى » .
وهنا يقول : اقتربت القيامة ، وسينشقُّ القمرُ لا محالة . وتشير الأبحاثُ الفلكية إلى أن القمر يدنو من الأرض ويستمرُّ بالدنوّ منها حتى يبلغَ درجةً يتمزقُ عندها ويصير قِطعاً كلّ واحدةٍ تدور في فلكها الخاص . وهذا طبعاً سيحدُث عند انتهاء هذه الحياةِ الدنيا ، ولا يعلم وقتَ ذلك إلا الله .
ويقول المفسّرون الأقدمون : إن انشقاق القمر قد حدَث فعلا ، ويرون عدة أحاديث أسندوها إلى أنس بن مالك وعبد الله بن عباس ، وجبير بن مطعم ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . ويقول ابن كثير : قد كان هذا في زمان رسول الله كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة .
والروايةُ عن خمسة من الصحابة فقط فكيف تكون متواترة ؟ واللهُ أعلم .
{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }
يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها ، وحان وقت مجيئها ، ومع ذلك ، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها ، غير مستعدين لنزولها ، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر ، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على [ صحة ما جاء به و ] صدقه ، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى ، فانشق فلقتين ، فلقة على جبل أبي قبيس ، وفلقة على جبل قعيقعان ، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى{[921]} الكائنة في العالم العلوي ، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل .